لقد المكارم بعد موت ... وشاد بناءها بعد انهدام.
فالإحياء والموت، والشيد والانهدام متقابلة معانيها الحقيقة والمجازية إذ المراد: أنه أعطى بعد أن منع الناس كلهم.
ومنه قولي:
يهلك المال بالعطاء ويحيا ... ميت فضل فاعجب لمحيٍ مميت.
ومثال إيهام الطباق قول دعبل:
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى.
فضحك المشيب هنا عبارة عن ظهوره ظهورا تاما، ولا تقابل بين البكي وظهور المشيب، لكنه عبر عنه بالضحك الذي يكون معناه الحقيقي مضاد لمعنى البكاء.
وقول ابن رشيق:
وقد أطفأوا شمس النهار وأوقدوا ... نجوم العوالي في سماء عجاج.
فإن التقابل غنما هو في معنيي الإطفاء والإيقاد الحقيقيين، وأما المجازيان فلا، لأن إطفاء الشمس عبارة عن إثارة العجاج حتى غطى على الشمس، وإيقاد نجوم العوالي عبارة عن تشريع أسنة رماحهم، ولا مضادة بين هذين المعنيين. وغلط ابن حجة في عده هذا البيت من التكافؤ.
ويعجبني من هذا النوع قول أبي العرب المغربي:
من كل مشتمل بمنصل عزمه ... ذي همة يطأ السماء همام.
نشوان من خمر الكرى صاحي الندى ... ريان من ماء المحامد ظام.
فالتقابل في هذا أيضاً بين المعاني الحقيقة لا المجازية كما لا يخفى. وأما الطباق المعنوي فهو متقابلة الشيء بضده في المعنى لا اللفظ، كقوله تعالى: (إن أنتم إلا تكذبون. قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) معناه: ربنا ليعلم إنا لصادقون، وقوله تعالى: (جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) قال أبو علي الفارسي: لما كان البناء رفعا للمبني قوبل بالفراش الذي هو خلاف البناء.
وقول المقنع الكندي:
لهم جل مالي أن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لا أكلفهم رفدا.
فقوله: إن تتابع، في قوة قوله: إن كثر، والكثرة ضد القلة، فهو إذن طباق بالمعنى لا باللفظ.
وقول هدبة بن الخشرم:
فإن تقتلوني في الحديد فإنني ... قتلت أخاكم مطلقا لم يقيد.
فإن معناها، فإن تقتلوني مقيدا، وهو ضد الطلق، فطابق بينهما في المعنى. وطباق الإيجاب كجميع ما تقدم من الأمثلة.
وأما طباق السلب، فهو الجمع بين فعلي مصدر واحد، مثبت ومنفي أو أمر ونهي، كقوله تعالى "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" وقوله "أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا" وقوله "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك" فالمطابقة بين هذه الآيات حاصلة بين إثبات العلم ونفيه. وقوله تعالى "فلا تخشوا الناس واخشون" فالمطابقة حاصلة بين النهي عن الخشية والأمر بها.
ومثاله من الشعر قول امرئ القيس:
جزعت ولم أجزع من البين مشفقا ... وعزيت قلبا بالكواعب مولعا.
وقول آخر:
وننكر عن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول.
وقول البحتري:
يقيض لي من حيث لا أعلم النوى ... ويسري إلي الشوق من حيث أعلم.
وقول أبي الطيب:
ولقد علمت وما علمت حقيقة ... ولقد جهلت وما جهلت خمولا.
ومن المستطرف في ذلك قول بعضهم:
خلقوا وما خلقوا لمكرمة ... فكأنهم خلقوا وما خلقوا.
رزقوا وما رزقوا سماح يد ... فكأنهم رزقوا وما رزقوا.
فالمطابقة بين ذلك كله بين الإيجاب والسلب.
ومن الطباق نوع يسمى الطباق الخفي، والملحق بالطباق، وهو الجمع بين معنيين يتعلق أحدهما بما يقابل الآخر، نوع تعلق مثل السببية واللزوم كقوله تعالى: "أشداء على الكفار رحماء بينهم" فإن الرحمة وإن لم تكن مقابلة للشدة لكنها مسببة عن اللين الذي هو ضد الشدة، وقوله تعالى "ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله" فإن ابتغاء الفضل وإن لم يكن مقابلا للسكون لكنه يستلزم الحركة المضادة للسكون، ومنه قوله تعالى "اغرقوا فأدخلوا نارا" لأن إدخال النار يستلزم الإحراق المضاد للإغراق، وقيل لأن الغرق من صفات الماء، فكأنه جمع بين النار والماء.
قال ابن منقذ: وهي أخفى مطابقة من القرآن.
قال ابن المعتز: من أملح الطباق وأخفاه قوله تعالى: "ولكم في القصاص حياة" لأن معنى القصاص القتل، فصار القتل سبب الحياة.
ومن أمثلته في الشعر قول التهامي: