أنا نورد الرايات بيضا ... ونصدرهن حمرا قد روينا.
وليس كما زعم، لأن الناس متفقون على أن جميع المخلوقات مخالف وموافق ومضاد، فمتى وقع الخلاف في باب المطابقة فإنما هو في سبيل المسامحة.
قال الرماني وغيره: السواد والبياض ضدان، وسائر الألوان يضاد كل واحد منها صاحبه، إلا أن البياض هو ضد السواد على الحقيقة، لأن كل واحد منهما كلما قوي زاد بعدا من صاحبه، وما بينهما من الألوان كلما قوي زاد قربا من السواد، فإذا ضعف زاد قربا من البياض، ولأن البياض منصبغ لا يصبغ، والسواد صابغ لا يتصبغ، وليس سائر الألوان كذلك، لأنها تصبغ، وهذا ظاهر فمن شك فيه لا يعد من العقلاء فضلا عن العلماء. انتهى كلام ابن الأثير.
والحق أن التدبيج داخل في تفسير الطباق لما بين اللونين من التقابل، فإنهم فسروا المتضادين في حد الطباق بالمعنيين المتقابلين في الجملة.
قال السعد التفتازاني: يعني ليس المراد بالمتضادين، الأمرين الوجوديين المتواردين على محل واد بينهما غاية الخلاف، كالسواد والبياض، بل أعم من ذلك، وهو ما يكون بينها تقابل وتناف في الجملة وفي بعض الأحوال، سواء كان التقابل حقيقيا أو اعتباريا، وسواء كان تقابل التضاد أو تقابل الإيجاب والسلب، أو تقابل العدم والملكة، أو تقابل التضايف، أو ما يشبه شيئا من. انتهى.
وعلى هذا فبين كل لونين من الألوان غير البياض والسواد تقابل، وإن لم يكن تقابل التضاد فهو داخل في الطباق، وسيأتي الكلام على التدبيج مستوفي في محله إن شاء الله تعالى.
تتميم- أحسن الطباق ما ترشح بنوع آخر من البديع يكسوه طلاوة وبهجة لا توجد عند فقده، وإلا فمجرد مطابقة الضد بالضد ليس تحته كبير أمر، وما وقع في القرآن العظيم منه أكثره مشتمل على ما ذكرناه كقوله تعالى: "هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً" فقابل بين الخوف والطمع مع التقسيم البديع، إذ ليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع والأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين وقوله تعالى: "له الحمد في الأولى والآخرة" فإن فيه مع المطابقة إدماجا لأن الغرض من هذه الآية تفرده تعالى بوصف الحمد، وأدمج فيه الإشارة إلى البعث والجزاء، وسيأتي عليها مزيد كلام في نوع الإدماج إن شاء الله تعالى. وكذلك قوله تعالى: "تولج الليل في النهار تولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب" فترشحت المطابقة فيها بالعكس الذي لا يدرك لو جازته وبلاغته ومبالغة التكميل التي لا تليق بغير القدرة الإلهية، فإن في العطف بقوله: وترزق من تشاء بغير حساب دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال التي لا يقدر عليها غيره، قادر على أن يرزق من يشاء من عباده بغير حساب، وهذا من مبالغة التكميل المشحونة بالقدرة الربانية، وقوله تعالى: "جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله" فإن فيه المطابقة بين الليل والنهار اللف والنشر المرتب، فإن السكون راجع إلى الليل، والابتغاء راجع إلى النهار، وأنت إذا تأملت ما وقع في كلام الله تعالى من هذا النوع، رأيته جميعه أو أكثره من هذا القبيل.
وأما أمثلته في الشعر فمن بديعة يقول أبي الطيب المتنبي:
برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان.
كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسي وأنت يماني.
فإنه رشح الطباق بالتورية التي كسته بهجة كان عاريا عنها، والطباق بين قوله: قيسي ويماني، لان العداوة بين قيس ويمن معلومة، والتورية في قوله: يماني، لأنه أراد السيف فورى به عن الرجل المنسوب إلى اليمن.
ومثاله قول الصاحب بن عباد يرثي كثير بن أحمد الوزير:
يقولون قد أودى كثير بن أحمد ... وذلك رزء في الأنام جليل.
فقلت دعوني والعلى نبكه معا ... فمثل كثير في الأنام قليل.
وأبو العلاء المعري كساه ديباجة الجمع مع التقسيم في قوله:
لا تطويا السر عني يوم نائبة ... فإن ذلك ذنب غير مغتفر.
والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر.
والقاضي الأرجاني ضوع أرجه في اللف والنشر المرتب في قوله:
تعلق بين الوصل والهجر مهجتي ... فلا أربى في الحب أقضي ولا نحبي.
وهذا البيت من قصيدة جيدة له مطلعها: