تشديدات الْخَوَارِج وتعمقاتهم وأروهم مَا هم عَلَيْهِ من التصلب فِي دينهم فَظهر للبربر ببادئ الرَّأْي أَن تعمقهم ذَلِك إِنَّمَا هُوَ أثر من آثَار الخشية لله وَالْخَوْف مِنْهُ وَأَن ذَلِك هُوَ عين التَّقْوَى الْمَأْمُور بهَا شرعا وَغَابَ عَنْهُم أَن الدّين يسر كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن مِلَّة الْإِسْلَام عرفت من بَين الْملَل بالحنيفية السمحة لذَلِك وَالله تَعَالَى يَقُول {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} وَمن أمعن نظره فِي نُصُوص الشَّرِيعَة من الْكتاب وَالسّنة علم يَقِينا أَن طَرِيق النجَاة إِنَّمَا هِيَ سلوك الْوسط وَإِن كلا من التعمق والانحلال ضلال وَإِلَى ذَلِك الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى {وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله} الْآيَة وَقد قرر جمع من الْأَئِمَّة المقتدى بهم كالغزالي فِي الْإِحْيَاء وَغَيره أَن الْمَحْمُود فِي أُمُور الديانَات كلهَا إِنَّمَا هُوَ سلوك الْوسط بَين الإفراط والتفريط وَبِه يتم مُرَاد الله من خلقه وكلا طرفِي قصد الْأُمُور ذميم وَهَذَا مَبْحَث طَوِيل نَفِيس وَقد رمزنا إِلَيْهِ بِهَذِهِ النبذة الْيَسِيرَة والتوفيق بيد الله
وَقد رسخت هَذِه الْبِدْعَة الخارجية فِي البربر زَمَانا طَويلا إِلَى أَن اضمحلت فِي أَوَاخِر الْمِائَة الثَّانِيَة وَمَا بعْدهَا وَمَعَ ذَلِك فقد بقيت مِنْهَا آثَار فِي أَعْقَابهم من أَصْحَاب الْأَطْرَاف كَمَا ذكره ابْن خلدون والناقد بَصِير
وَلما طهر الْخُلَفَاء من بني الْعَبَّاس الْمغرب من هَذِه النزعة الشيطانية أَخذ أَهله بعْدهَا بمذاهب أهل الْعرَاق فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع لِأَن ذَلِك الْمَذْهَب يَوْمئِذٍ هُوَ مَذْهَب الْخُلَفَاء بالمشرق وَالنَّاس على قدم إمَامهمْ
قَالَ عِيَاض فِي المدارك ظهر مَذْهَب أبي حنيفَة بإفريقية ظهورا كَبِيرا إِلَى قرب أَرْبَعمِائَة سنة فَانْقَطع مِنْهَا وَدخل مِنْهُ شَيْء إِلَى مَا وَرَاءَهَا من الْمغرب قَدِيما بِمَدِينَة فاس وبالأندلس وَكَذَا ظهر بالأندلس أَيْضا مَذْهَب عبد الرَّحْمَن الْأَوْزَاعِيّ من أهل الشَّام
وَاخْتلف النَّاس فِي السَّبَب الَّذِي انْتقل بِهِ أهل الْمغرب عَن مَذْهَب أبي حنيفَة وَغَيره إِلَى مَذْهَب الإِمَام مَالك بن أنس الَّذِي هُوَ مَذْهَب السّلف من