للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا نَفْسَ الْمَصُونِ كَمَا صَنَعَهُ أَصْلُهُ بَلْ غَيَّرَهُ كَأَنَّهُ لِلْإِشَارَةِ إلَى تَغَايُرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لِدَفْعِ الْمُؤْذِي، وَالثَّانِي لِتَحْصِيلِ التَّنَزُّهِ وَدَفْعِ الْكُدُورَةِ عَنْ النَّفْسِ؛ فَانْدَفَعَ اسْتِحْسَانُ شَارِحٍ لِعِبَارَةِ أَصْلِهِ عَلَى عِبَارَتِهِ (وَ) لَائِقًا بِوَظِيفَةِ (الْقَضَاءِ) الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْمَنَاصِبِ وَأَجَلُّ الْمَرَاتِبِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ الْأُبَّهَةِ، وَالْحُرْمَةِ، وَالْجَلَالَةِ فَيَجْلِسُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ دَاعِيًا بِالتَّوْفِيقِ، وَالْعِصْمَةِ، وَالتَّسْدِيدِ مُتَعَمِّمًا مُتَطَلِّسًا عَلَى عَالٍ بِهِ فُرُشٌ وَوِسَادَةٌ لِيَتَمَيَّزَ بِهِ وَلِيَكُونَ أَهْيَبَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الزُّهْدِ، وَالتَّوَاضُعِ لِلْحَاجَةِ إلَى قُوَّةِ الرَّهْبَةِ، وَالْهَيْبَةِ، وَمِنْ ثَمَّ كُرِهَ جُلُوسُهُ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ (لَا مَسْجِدًا) أَيْ: لَا يَتَّخِذُهُ مَجْلِسًا لِلْحُكْمِ فَيُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَ الْقَاضِي يَغْشَاهُ نَحْوُ الْحُيَّضِ، وَالدَّوَابِّ وَيَقَعُ فِيهِ اللَّغَطُ، وَالتَّخَاصُمُ، وَالْمَسْجِدُ يُصَانُ عَنْ ذَلِكَ. نَعَمْ إنْ اتَّفَقَ عِنْدَ جُلُوسِهِ فِيهِ قَضِيَّةٌ، أَوْ قَضَايَا فَلَا بَأْسَ بِفَصْلِهَا وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، وَكَذَا إذَا جَلَسَ فِيهِ لِعُذْرِ نَحْوِ مَطَرٍ. وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ فِيهِ أَشَدُّ كَرَاهَةً وَأُلْحِقَ بِالْمَسْجِدِ بَيْتُهُ وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَحْتَشِمُ النَّاسُ دُخُولَهُ بِأَنْ أَعَدَّهُ مَعَ حَالِهِ فِيهِ يَحْتَشِمُ النَّاسُ الدُّخُولَ عَلَيْهِ لِأَجْلِهَا، أَمَّا إذَا أَعَدَّهُ وَأَخْلَاهُ مِنْ نَحْوِ عِيَالٍ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَحْتَشِمُهُ أَحَدٌ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ فَلَا مَعْنَى لِلْكَرَاهَةِ حِينَئِذٍ.

(وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْضِيَ فِي حَالِ غَضَبٍ) لَا لِلَّهِ تَعَالَى (وَجُوعٍ وَشِبَعٍ مُفْرِطَيْنِ وَكُلِّ حَالٍ يَسُوءُ خُلُقُهُ) فِيهِ كَمَرَضٍ وَمُدَافَعَةِ حَدَثٍ وَشِدَّةِ حُزْنٍ، أَوْ خَوْفٍ، أَوْ هَمٍّ، أَوْ سُرُورٍ لِصِحَّةِ النَّهْيِ عَنْهُ فِي الْغَضَبِ. وَقِيسَ بِهِ الْبَاقِي؛ وَلِاخْتِلَالِ فِكْرِهِ وَفَهْمِهِ بِذَلِكَ وَمَعَ ذَلِكَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ. وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّ مَا لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْمَطْلَبِ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَلَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ التَّقْصِيرَ فِي مُقَدِّمَاتِ الْحُكْمِ، أَمَّا إذَا غَضِبَ لِلَّهِ تَعَالَى وَكَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَلَا كَرَاهَةَ كَمَا اعْتَمَدَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّعَدِّي، بِخِلَافِ لِحَظِّ نَفْسِهِ وَتَرْجِيحُ الْأَذْرَعِيِّ عَدَمَ الْفَرْقِ وَأَطَالَ لَهُ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ لِتَشْوِيشِ الْفِكْرِ حِينَئِذٍ.

(وَيُنْدَبُ أَنْ يُشَاوِرَ) الْمُجْتَهِدَ وَلَوْ فِي الْفَتْوَى وَغَيْرَهُ حَيْثُ لَا مُعْتَمَدَ مُتَيَقَّنٌ فِي مَذْهَبِهِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ بِسَائِرِ تَوَابِعِهَا وَمَقَاصِدِهَا فِيمَا يَظْهَرُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ

ــ

[حاشية الشرواني]

وَقْتَ الْحُكْمِ، فَإِنْ لَمْ يَجْلِسْ لِلْحُكْمِ بِأَنْ كَانَ فِي وَقْتِ خَلَوَاتِهِ، أَوْ كَانَ ثَمَّ زَحْمَةٌ لَمْ يُكْرَهْ نَصْبُهُ. وَالْبَوَّابُ وَهُوَ مَنْ يَقْعُدُ بِالْبَابِ لِلْإِحْرَازِ كَالْحَاجِبِ فِيمَا ذُكِرَ وَهُوَ مَنْ يَدْخُلُ عَلَى الْقَاضِي لِلِاسْتِئْذَانِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا مَنْ وَظِيفَتُهُ تَرْتِيبُ الْخُصُومِ، وَالْإِعْلَامُ بِمَنَازِل النَّاسِ أَيْ: وَهُوَ الْمُسَمَّى الْآنَ بِالنَّقِيبِ فَلَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِهِ وَصَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ بِاسْتِحْبَابِهِ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا) أَيْ: قَوْلَهُ: لَائِقًا بِالْوَقْتِ نَفْسَ الْمَصُونِ أَيْ: مِنْ الْأَذَى. (قَوْلُهُ: كَمَا صَنَعَهُ أَصْلُهُ) فَإِنَّهُ قَالَ: لَائِقًا بِالْوَقْتِ لَا يَتَأَذَّى فِيهِ بِالْحَرِّ، وَالْبَرْدِ. اهـ. مُغْنِي (قَوْلُهُ: بَلْ غَيْرُهُ) أَيْ: بَلْ جَعَلَهُ صِفَةً أُخْرَى. اهـ. مُغْنِي. (قَوْلُهُ: اسْتِحْسَانُ شَارِحِ إلَخْ) وَافَقَهُ الْمُغْنِي. (قَوْلُهُ: بِأَنْ يَكُونَ عَلَى غَايَةٍ إلَخْ) الضَّمِيرُ فِي يَكُونُ لِلْقَاضِي بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ وَحِينَئِذٍ فَكَانَ اللَّائِقُ إبْدَالَ الْبَاءِ فِي بِأَنْ بِالْوَاوِ. اهـ. رَشِيدِيٌّ.

(قَوْلُهُ: دَاعِيًا بِالتَّوْفِيقِ إلَخْ) ، وَالْأَوْلَى مَا رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْت عَلَى اللَّهِ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَضِلَّ، أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ، أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ، أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ» قَالَ ابْنُ قَاصٍّ: وَسَمِعْت أَنَّ الشَّعْبِيَّ كَانَ يَقُولُهُ إذَا خَرَجَ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَيَزِيدُ فِيهِ، أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ اللَّهُمَّ أَعِنِّي بِالْعِلْمِ وَزَيِّنِي بِالْحِلْمِ وَأَلْزِمْنِي التَّقْوَى حَتَّى لَا أَنْطِقَ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا أَقْضِيَ إلَّا بِالْعَدْلِ وَأَنْ يَأْتِيَ الْمَجْلِسَ رَاكِبًا، وَيُنْدَبُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى النَّاسِ يَمِينًا وَشِمَالًا. اهـ. مُغْنِي. (قَوْلُهُ: عَلَى عَالٍ) أَيْ مُرْتَفِعٍ كَدَكَّةٍ. اهـ. مُغْنِي (قَوْلُهُ: عِنْدَ جُلُوسِهِ فِيهِ) أَيْ: لِصَلَاةٍ، أَوْ غَيْرِهَا نِهَايَةٌ وَمُغْنِي. (قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا جَلَسَ فِيهِ لِعُذْرٍ إلَخْ) فَإِنْ جَلَسَ فِيهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، أَوْ دُونَهَا مَنَعَ الْخُصُومَ أَيْ وُجُوبًا مِنْ الْخَوْضِ فِيهِ بِالْمُخَاصَمَةِ، وَالْمُشَاتَمَةِ وَنَحْوِهِمَا بَلْ يَقْعُدُونَ خَارِجَهُ، وَيُنَصِّبُ مَنْ يُدْخِلُ عَلَيْهِ خَصْمَيْنِ خَصْمَيْنِ مُغْنِي وَنِهَايَةٌ. (قَوْلُهُ: وَأُلْحِقَ بِالْمَسْجِدِ بَيْتُهُ) أَيْ: فِي اتِّخَاذِهِ مَجْلِسًا لِلْحُكْمِ. اهـ. ع ش وَقَالَ الرَّشِيدِيُّ: أَيْ: فِي الْكَرَاهَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فِي آخِرِ السَّوَادَةِ، وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لِلْكَرَاهَةِ. اهـ.

(قَوْلُهُ: مَعَ حَالَةٍ) أَيْ: حَالِ كَوْنِهِ مَصْحُوبًا بِحَالَةٍ. اهـ. ع ش. (قَوْلُهُ: فِيهِ) أَسْقَطَهُ النِّهَايَةُ.

(قَوْلُهُ: أَوْ سُرُورٍ) فِي هَذَا الْعَطْفِ تَسَاهُلٌ. اهـ. رَشِيدِيٌّ. (قَوْلُهُ: وَقَضِيَّةُ إلَخْ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ قَالَ فِي الْمَطْلَبِ: لَوْ فُرِّقَ بَيْنَ مَا لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَجَالٌ وَغَيْرِهِ لَمْ يَبْعُدْ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْغَضَبُ لِلَّهِ، أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ إنَّهُ الْمُوَافِقُ لِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ وَكَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَالْجُمْهُورِ وَإِنْ اسْتَثْنَى الْإِمَامُ وَالْبَغَوِيُّ الْغَضَبَ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَشْوِيشُ الْفِكْرِ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ نَعَمْ تَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْحُكْمِ فِي الْحَالِ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ الْحُكْمُ عَلَى الْفَوْرِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنْ قَضَى مَعَ تَغَيُّرِ خُلُقِهِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ اهـ وَقَوْلُهُ: نَعَمْ تَنْتَفِي إلَخْ فِي النِّهَايَةِ، وَالْأَسْنَى مِثْلُهُ (قَوْلُهُ: ذَلِكَ) أَيْ: التَّعْلِيلِ الثَّانِي.

(قَوْلُهُ: فِي مُقَدِّمَاتِ الْحُكْمِ) كَعَدَالَةِ الشُّهُودِ وَتَزْكِيَتِهِمْ بُجَيْرِمِيٌّ. (قَوْلُهُ: أَمَّا إذَا غَضِبَ لِلَّهِ تَعَالَى إلَخْ) خِلَافًا لِلْمُغْنِي كَمَا مَرَّ آنِفًا وَلِلنِّهَايَةِ عِبَارَتُهُ وَمُقْتَضَى إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْغَضَبِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا أَفْتَى بِهِ الْوَالِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَبَعًا لِلْأَذْرَعِيِّ خِلَافًا لِلْبُلْقِينِيِّ، وَمَنْ تَبِعَهُ؛ لِأَنَّ الْمَحْذُورَ تَشْوِيشُ الْفِكْرِ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَأَطَالَ لَهُ) أَيْ: عَدَمِ الْفَرْقِ، أَوْ تَرْجِيحِهِ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى فِي.

(قَوْلُهُ: الْمُجْتَهِدَ إلَخْ) بِالنَّصْبِ مَفْعُولُ يُشَاوِرَ وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ الْآتِي: الْفُقَهَاءَ بَدَلَ مِنْهُ وَمِنْ قَوْلِهِ: وَغَيْرَهُ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْمُجْتَهِدَ وَلَوْ عَكَسَ لَكَانَ أَحْسَنَ مَزْجًا. (قَوْلُهُ: فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ) كَقَوْلِهِ الْآتِي: عِنْدَ تَعَارُضِ إلَخْ مُتَعَلِّقٌ بِيُشَاوِرَ (قَوْلُهُ: عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ إلَخْ) ، أَمَّا الْحُكْمُ الْمَعْلُومُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ

ــ

[حاشية ابن قاسم العبادي]

الْأَصَحِّ كَهِلَالِ رَمَضَانَ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ التَّقْصِيرَ فِي مُقَدِّمَاتِ الْحُكْمِ) نَعَمْ تَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْحُكْمِ فِي الْحَالِ وَقَدْ يَتَعَيَّنُ الْحُكْمُ عَلَى الْفَوْرِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ. (قَوْلُهُ: وَتَرْجِيحُ الْأَذْرَعِيِّ عَدَمَ الْفَرْقِ إلَخْ)

<<  <  ج: ص:  >  >>