للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن أشرف العلوم الشرعية علم الفقه إذ هو ثمرتها العملية التي يحتاج إليها المسلمون في حياتهم اليومية، فبأحكامه يتعبُّد الناسُ ربَّهم، وتنتظم الحياة فيما بينهم، وهو من العلوم الصعبة التي تحتاج إلى التفرّغ التامّ لضبطه وإدراك جزئياته، قال ساجقلي زاده: فن الفقه أصعب الفنون وأطولها، وهو علم الأئمة المجتهدين، وأغلب ما يحتاج إليه العالمون، بحر لجيّ، لا يغوص فيه إلا ذكي أوحديّ ماهر في أصوله، ولا تحصل البضاعة فيه إلا بسعي بليغ في مدّة مديدة بهمة عالية بدراسة مثل كتاب «الهداية» مع شرحها الأكمليّ، وأما التبحّر فيه، فهو يكاد أن يستغرق العمر، وكاشف المشكلات فيه، فهو أعزّ من الكبريت الأحمر، ولا تحصى مسائله التي تحيَّر فيها العلماء. انتهى (١).

ولا ينقص من مكانة الفقه قلّة المشتغلين والمعتنين به، وإعراض الناس عنه:

عاب التفقهَ قومٌ لا عقول لهم … وما عليه إذا عابوه من ضرر

ما ضرَّ شمس الضحى والشمس طالعة … أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر (٢)

ورغبتي للتخصص في الفقه الحنفي جعلتني أبحث عن أشهر كتبه وأكثرها إتقاناً وتحقيقاً واعتماداً في المذهب، وفي الوقت نفسه لم يخدم ولم يطبع طبعة محقَّقةً تليق بمكانته، فيكون تحقيقُه سبيلاً لضبطي المذهب، وسبباً في استفادة الناس منه، ونشره في البلاد وبين العباد، فرأيت ما أردت متحقّقاً في «شرح الوقاية» لصدر الشريعة، فـ «الوقاية» تعتبر أحد المتون الثلاثة أو الأربعة المعتمدة في المذهب الحنفي، وعليها التعويل في الفتوى، وأشهر شروحها هو شرح صدر الشريعة الذي ألف جدُّه «الوقاية» من أجلِّه، فإذا أطلق أريد هو، ووجد هذا الكتاب عناية كبيرةً من علماء المذهب الحنفي، فهو الذي كان يدرس في مدارس الدولة العثمانية، وفي بلاد الهند وغيرها كما سيأتي تفصيله؛ لذلك كثر الشرّاح والمحشّون والمعلّقون عليهما حتى إنِّي جمعت ما يقارب مئة شرح وحاشيةٍ عليهما، وسيأتي ذكرهم في الدراسة، وكذا نظم من قبل أكثر من شخص، وترجم إلى أكثر من لغة، وحدَّثني أحد من يعمل في دار البشائر الإسلامية أنه قد تم طبعه قبل سنوات في دارهم مترجماً إلى اللغة التركية.


(١) من «ترتيب العلوم» (ص ١٦٠).
(٢) ينظر: «وفيات الأعيان» (٥: ٢٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>