فحينئذ يقدَّمُ ما فيهما على ما في المتون؛ لأن التصحيح الصريحي أولى من التصحيح الالتزامي، ولم يريدوا بالمتون كل المتون، بل المتون التي مصنفوها مميّزون بين الراجح والمقبول والمردود والقوي والضعيف، فلا يوردون في متونهم إلا الراجح والمقبول والقوي وأصحاب هذه المتون كذلك، وهذا في عرف المتأخرين، أما في عرف المتقدّمين قبل أزمنة المصنفين المذكورين فحيث قالوا: ما في المتون مقدم. أرادوا به متون كبار مشايخنا، وأجلة فقهائنا كتصانيف الطحاوي والكرخي والجصاص والخصاف والحاكم وغيرهم (١).
فأصحاب هذه المتون متفقون على الالتزام بذكر قول الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه -،
والراجح في المذهب في كل ما يوردون، ويهتمون كثيراً جداً بجمع مسائل كثيرة في متونهم، مع اختصار شديد في العبارة، ويختلفون في أن بعضهم يذكر بعض المسائل وبعضهم لا يذكرها، ووكذا فيما هو الصحيح أو الأصح أو ما عليه الفتوى في المذهب كلٌّ على حسب اجتهاده، وعلى حسب الشائع في البلاد التي يعيش فيها، وأيضاً في ترتيب الكتب تقديماً وتأخيراً. وهذه الميِّزاتُ انفردوا فيها عن أصحاب المتون من المتقدِّمين، إذ قد يخرج صاحب المتن عن رأي المذهب في بعض المسائل، كما يقع ذلك من الطحاوي في «مختصره».
فالملاحظ ممَّا سبق من الكلام مدى اعتبار «الوقاية» في المذهب حتى دخلت قسمة المتون الأربعة والمتون الثلاثة المعتمدة في المذهب، ويرجع ذلك علاوة على ما سبق مما التزمه أصحاب المتون إلى كبر مكانة مؤلِّفها العلمية، ومنْزلته في المذهب، وإلى كونها جمعت مسائل «الهداية» السابق ذكر ما انفردت به من المميزات التي لم يشاركها فيه أيٌّ من الكتب المؤلّفة في المذهب. وسنلاحظ بتسليط النظر على القرون التي تلت هذا القرن مدى متابعة المؤلِّفين لأصحاب هذه المتون ولا سيما لمتن «الوقاية».
ففي القرن الثامن: ألف الكاكي (ت ٧٤٩ هـ)«عيون المذاهب»، وصدر الشريعة «مختصر الوقاية» المسمَّاة بـ «النقاية»، وقد اهتم العلماء بتحفيظها وتدريسها وشرحها،