للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

...................................................................................................................

فإن قيلَ: المشتري الأَوَّلُ إذا أنكرَ إقرارَهُ بالعيب، فأثبتَ هذا بالبَيِّنةِ صارَ كأنَّه أقرَّ عند القاضي، فإنَّ الثابتَ بالبَيِّنةِ كالثَّابتِ عياناً، فينبغي أن لا يكونَ له ولايةُ الرَّدِّ على البائعِ الأَوَّلِ سواءٌ أقرَّ عند القاضي، أو أنكرَ إقرارَهُ، فيثبُتُ بالبَيِّنَة؛ لأَنَّ الإقرارَ حجَّةٌ قاصرةٌ، فَأَيُّ فائدةٍ في قوله: معنى القضاء بالإقرار أنَّه أنكرَ الإقرار؟

قلنا: نحنُ لم نَجْعَل الإقرارَ حجَّةً مُتَعَدِّيةً، ولم نَقُلْ: إنَّ الرَّدَّ على المشتري الأَوَّلِ رَدٌّ على بائعِهِ، بل له أن يُخاصمَ بائعَهُ، فإنّ المشتري الثَّاني إذا أَثْبَتَ أنَّ العيبَ كان في يدِ المشتري الأَوَّل، ورَدَّ عليه، فالمشتري الأَوَّلُ إن أثبتَ أنَّ العيبَ كان في يَدِ بائعِهِ رَدَّهُ عليه، وإلاَّ فلا.

والفرقُ بينَ إقرارِهِ عند القاضي وبينَ إثباتِ إقرارِهِ بالبَيِّنةِ أَنَّهُ إذا أقرَّ عند القاضي يكونُ طائعاً في أخذِ المبيع، فصارَ كما إذا اشترى من المشتري الثَّاني، فلا يكونُ له ولايةُ الرَّدِ على البائعِ الأَوَّل، أَمَّا إذا أنكرَ إقرارَهُ بالعيب، فثبَتَ بالبَيِّنة، لم يكن طائعاً في الأخذ، فيكون أخذُهُ بحُكْمِ الفسخِ كأنَّهُ لم يبعْ، فيكونُ له المخاصمةُ مع بائعِه.

وقد قيل: هذه المسألةُ فيما إذا ادّعى المشتري الثَّاني على المشتري الأوَّلِ أنَّ العيبَ كان في يَدِ البائعِ الأَوَّل، فحينئذٍ للمشتري الأَوَّل أَنْ يُخاصمَ على البائعِ الأَوَّلِ، أمَّا إذا ادّعى أنّ العيبَ في يدِ المشترِي الأوَّلِ فليسَ له أن يُخَاصِمَ بائعَه.

أَقُولُ: فيه نظرٌ؛ لأنَّه إذا ادّعى أنَّ العيبَ في يدِ البائعِ الأوَّل، وأقامَ عليه البيِّنةَ، وقضى على المشتري الأَوَّل، فهذا القضاءُ ليسَ قضاءً على البائعِ الأوّل، وهذه البيِّنةُ لم تقمْ على البائعِ الأوَّلِ ولا على نائبِه؛ لأنَّ ما يدَّعى على الغائبِ ليسَ سبباً لما يدَّعى على الحاضر (١)


(١) تعليلٌ لقولِه: ولا على نائبِه، يعني أنَّ القضاءَ على الغائبِ وإقامةُ البيّنة لا يصحّان إلاَّ بحضرة نائبه، وهو على ثلاثةِ أنواع:
حقيقي؛ وهو مَن يكون بأمرِهِ وإنابته، وهو الوكيل.
وشرعي: وهو الوصيّ الذي نَصَبَه القاضي.

وحكمي: وهو أن يكون بنيابةِ الحاضرِ عن الغائبِ حكماً؛ بأن يكونَ ما يدّعي على الغائب سبباً لما يدّعي على الحاضرِ على كلِّ حال، وهو بحيث لا ينفك. ففي هذه الحالة ينصّبُ الحاضرُ خصماً عن الغائب، ويقضى عليهما جميعاً، كما إذا ادّعى على رجلٍ أنّه كفيلٌ عن فلانٍ بما يجبُ له عليه وأقام المدّعي عليه بالكفالة، وأنكرَ الحقّ، فأقامَ المدّعي البيّنة عليه أنّه وجبَ له على فلانٍ ألف دراهم، فإنّه يقضي بها في حقِّ الكفيلِ الحاضر، وفي حقِّ الغائبِ جميعاً، حتى لو حضرَ الغائبُ وأنكرَ لا يلتفتُ إلى إنكاره، وكلٌّ من هذه الأنواعِ منتفٍ ها هنا.
أمَّا الأوَّل: فلعدمِ كونِ المشتري الأوّل وكيلاً من البائع، ولا وصيّاً من جانبِ القاضي.
وأمَّا الثالث، فلأنَّ العيبَ الذي ادّعى المشتري الثاني على البائعِ الأوَّلِ الغائبِ لا يكون سبباً لازماً لما ادّعاهُ على المشتري الأوَّل الحاضر؛ لأنَّ العيبَ المذكورَ قد يتحقّقُ عند البائعِ الأوّل ولا يتحقّق عند المشتري الأوّل كما في المعائب المتزائلة، وقد يكون متحقّقاً عندهما معاً بحيث يكون الأوّل سبباً للثّاني، كما في المستمرةِ مثلِ الأصبعِ الزائدة، ولزومِ السببيّة شرطٌ للنيّابة الحكميّة. ينظر: «ذخيرة العقبي» (ص ٣٦٨)،

<<  <  ج: ص:  >  >>