البلاغةِ شعرُهُم الذي يُعَدُّ ذِروةَ كلامِهم، وقد كان القرآنُ الكريمُ الآيةَ التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - دليلًا قاطعًا على صِدقِ نُبوَّتِهِ، كما كانت العصا آيةً لصدق موسى - صلى الله عليه وسلم -، وإحياء الموتى وإبراء الأكمه آية لصدق عيسى - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من الأنبياءِ نَبِيٌّ إلا أُعْطِيَ مِن الآيات ما مِثلُهُ آمنَ عليه البشرُ، وإِنَّما كانَ الذي أوتيته وحيًا أوحاهُ اللهُ إليَّ، فأرجو أن أكونَ أكثرهم تابعًا يوم القيامة». (١) غير أنَّ آيات الأنبياء السابقين لنبينا كانت آياتٍ حسيةً ظاهرةً لِمَن شاهدها، وكان العَجْزُ عن الإتيان بِمثلها مركوزًا في الفِطَرِ البشرية، فلا أحد يستطيع أن يأتي بِمثلها ولا يدعي ذلك؛ لاستئثار الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالقدرة على مثلها، ولأن العجز عنها ظاهر للجميع.
وأَمَّا آيةُ نبينا مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فقد اختلفتْ عن تلك الآيات السابقةِ، من جهةِ أَنَّها آية بيانية، والعرب كانوا أهلَ بيانٍ وفصاحةٍ، لهم قدرةٌ على الإبانة عمَّا في أنفسهم أوضح بيانٍ وأبلغَه. ولذلك فإنه ينبغي لِمَن يريد معرفةَ سِرَّ إعجاز القرآن الكريم أن ينظرَ في أفصحِ كلامِ أولئك القوم الذين نَزَلَ عليهم القرآن، ثُمَّ يستخرج أسبابَ البلاغةِ والتفرد في ذلك الكلام، ثُمَّ يبحثُ بعد ذلك عن أسباب البلاغة في القرآن الكريم، وكيف فاقت ما كان يألفه العرب من كلامهم، والأوجه التي فاق بها كلامُ الله كلامَ العرب الذين نزلَ القرآنُ الكريمُ بلغتِهم. ولأنه لم يبق بين أيدي الناس اليوم من كلام من نزل القرآن الكريم عليهم ليكون شاهدًا على هذا ودليلًا عليه إلا الشعر الجاهلي الذي حفظه العلماء، وبلَّغَهُ الرواةُ الثقات، فإِنَّهُ يُعَدُّ مدخلًا مُهمًّا لدارس إعجاز القرآن الكريم.
والاكتفاء بالشعر الجاهلي في مثل هذا الدرس المتعلِّقِ بإعجاز القرآنِ، والاقتصار عليه أمر مهمٌّ؛ حتى لا يبقى مدخلٌ للتأثر بأسلوب
(١) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن ٩/ ٣ (٤٩٨١)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان ١/ ١٣٤ (١٥٢).