وكذلك جَميعُ مَنْ تَكلَّمَ في شِعرهِ مِنْ الكُتَّابِ والشعراءِ، كالواحديِّ، وابن عَبَّادِ، والحاتِميِّ، وابنِ وكيعٍ، لا أَعلمُ لأحدٍ منهم اعتراضًا في هذا البيتِ، فدلَّ هذا على أَنَّ هذا لم يكنْ له أصلٌ عندَهم، فلذلك لم يتكلموا فيه» (١). وكلام البطليوسي هذا وجيه، غير أنه لا يصلح أن يكون قاعدة مع كل شاعرٍ مُحدَثٍ، فعنايةُ العلماءِ بشعرِ المُتنبي ليست كَعنايتهم بِشعرِ غَيْره، وقد نظر البطليوسي في القرائنِ المُحتفةِ بشعر المتنبي فدعاه إلى قوله هذا، وهذه النظرةُ النقديَّةُ للشاهدِ الشعري تَحتاجُ إلى توسعٍ وبسطٍ ليس هذا مَحلُّهُ؛ فإِنَّ شواهدَ المتقدمين يَعتري بعضها مِن الاختلالِ، والفسادِ أحيانًا ما يدعو العلماء إلى التوقف في قبولها، بل وردِّها في كثيرٍ من الأحيانِ، وسيأتي مَزيدُ بيانٍ لهذا في المبحثِ التالي.
ثانيًا - المعيار المكاني:
وهو ما يُمْكِنُ أن يُسمَّى مقياسَ «البداوة والتحضر»، فبعد أن استقر رأي العلماء على صحة الاستشهاد بشعر الطبقات الثلاث الأولى، قام اللغويون بمراجعة أشعارهم للوقوف على بداوة هذا الشاعر وحضارة ذاك؛ لأن البداوة كانت شرطًا من شروط الفصاحة، فنتج عن هذه المراجعة أن حكموا على قسم من الشعراء بالضعف وعدم الفصاحة ولين اللسان، مِمَّا يُبعدُ شعرَهم عن الاستشهاد والاحتجاج، وذلك بسبب بعدهم عن البداوة، ومُخالطتِهم للحضر في المدن.
وقد كان لهذا العامل دور بارز في الاستشهاد، فقد مَجَّد العلماءُ الباديةَ، واتجهوا شطرها، ووثَّقوا أهلَها، فهي مَكمَنُ الفصاحةِ والبيان؛ ولذلك كانت العربُ في الحاضرة تُرسِلُ أبناءها للبادية للتربي على الفصاحة، ورُوي أَنَّ أبا عمرو بن العلاء ما كان يأخذُ لغتَه إلا من