للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

صلاة الظُّهر انفَتَل من صلاته كأنه مَغموم، فقام على غير عادته إلى خشَبةٍ في قِبْلة المسجِد، واتَّكَأ عليها، ووضَع يديه كأنه مُغضَب (١)؛ لأن صلاته لم تَتِمَّ، فانقبَضَت نفسُه من حيث لا يَشعُر، لكن هذا لكمالِ درجاتِه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فإن الله عَزَّ وَجَلَّ يَجعَل في نَفْس الإنسان انقِباضًا وإن كان لا يَشعُر؛ لأنه لم يُتِمَّ العِبادة المَطلوبة منه، اتَّكَأ عليها وشبَّك بين أصابعه كجِلسة المَهموم حتى ذُكِّر.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أن القَسوة هي الشِّدة بحيث إذا لمَسْتَ الشيء لم يَنضغِط بضَغْطك عليه مثل: الحجَر، وقد ضَرَب الله عَزَّ وَجَلَّ قَسْوة القَلْب بالحِجارة فقال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: ٧٤]، ولم يَقُل: فهي كالحديد مع أن الحَديد يَكسِر الحِجارة، والحِجارة لا تَكسِر الحَديد؛ وذلك لأن الحَديد يَلين بإِحْمائه على النار، والحِجارة لا تَلين، فلهذا شُبِّهَت قَسوةُ القُلوب بالحِجارة. فالقاسِيةُ قلوبُهم بمَعنى: التي قَسَت فلم تَلِن للحقِّ، نَسأَل اللهَ تعالى العافِيةَ.

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: في قوله تعالى: {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أنه أَشار إليهم بإشارة البَعيد للتَّنويه بسُفولهم وانحِطاط مَرتبتهم؛ لأن الإشارة بالبَعيد تارةً تكون إشارةً إلى عُلوِّ المَرتَبة، وتارةً تَكون إشارةً إلى انحِطاط المَرْتبة، ففي قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: ٢] لعُلوِّ المَرتَبة، وفي قوله هنا: {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}؛ لانحِطاط المَرتَبة.

فإن قال قائِل: هذه المعاني التي تَختَلِف واللَّفْظ واحِد ما الذي يُعيِّن أحَدَ المَعنَيَين؟

قُلنا: يُعيِّنه السِّياق، وحالُ المُتحدِّث عنه؛ لأن السِّياق والقَرائِن كلٌّ منهما يُعيِّن المُراد.


(١) أخرجه البخاري: كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، رقم (٤٨٢)، ومسلم: كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له، رقم (٥٧٣)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

<<  <   >  >>