للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقوله: {مُبِينٍ} هنا تَحتَمِل أن تَكون من (أَبان) اللازِمِ ومن (أَبان) المُتعَدِّي؛ فالفِعْل (بان) اللازِم تَقول: بانَ الأَمْر، بان الصُّبْح، بان المَعنَى؛ وبالهَمْز (أَبان): تَصِحُّ أن تَكون مُتعَدِّية وأن تَكون لازِمة حَسَب السِّياق، تَقول مثَلًا: أَبان الفَجْر؛ بمَعنى: بان، أي: ظهَر، وتَقول: أَبان الرجُلُ الحَقَّ؛ بمَعنَى: أَظهَره، فهنا: {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} الظاهِر أنها من اللازِم أي في ضَلالٍ بيِّنٍ ظاهِر. وقول الشارِح: إن "مِن بمَعنَى عَنْ" (١) مَبنيٌّ على مَسألة خِلافية بين النَّحْويِّين الكُوفيِّين والبَصريِّين، وهي أنه إذا جاء الحَرْف في غير مَوْضعه فهل هو نائِبٌ عن حَرْفٍ يَكون مُناسِبًا للسياق؟ أو إن المُتعَلِّق به يُقدَّر بمَعنًى يُناسِب الحرف؟ ولتَوْضيح ذلك نَأخُذ مِثالًا بقوله الله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: ٦]، فالعَيْن لا يُشرَب بها، بل يُشرَب مِنها، فهُنا اختَلَف النَّحويُّون: هل الباء بمَعنَى: (مِن) فيَكون حَرفٌ نابَ عن حَرْف؟ أو (يَشرَب) بمَعنَى (يَروَى)؛ أي: يَروَى بها عِباد الله تعالى، فيَكون الشُّرْب مُضمَّنًا مَعنَى الرِّيِّ، والرِّيُّ يَتَضمَّن الشُّرْب وزيادة؟

الجَوابُ: في هذا خِلاف بَيْن النَّحويِّين الكوفيِّين والبَصريِّين، وشيخُ الإسلام ابنُ تَيميَّةَ (٢) رَحِمَهُ اللهُ يُرجِّح القولَ الثانيَ: أن الفِعْل يُضمَّن مَعنًى يَتناسَب مع الحَرْف؛ لأننا إذا قُلنا بالتضمين استَفَدْنا فائِدتَيْن: الأُولى: مَدلول المَذكور، والثانية: مَدلول المُضمَّن؛ لأنك إذا قُلت: (يَروَى بها) استَفَدْنا أنهم يَشرَبون وَيرْوَوْن، لكن إذا قُلنا: (يَشرَبون) لم نَستَفِد إلَّا مَعنًى واحِدًا، فالتَّضمين فيه زيادة مَعنًى، لكن جَعْل حَرْفٍ بدَلَ حَرْف لا نَستَفيد به مَعنَى زائِدًا، فصار القول الراجِح في هذه المَسأَلةِ ما ذهَبَ إليه شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّةَ رَحِمَهُ اللهُ أن الفِعْل يُضمَّن مَعنًى يُناسِب الحَرْف.


(١) حاشية الجمل على الجلالين (٣/ ٧١٤).
(٢) مجموع الفتاوى (١٣/ ٣٤٢).

<<  <   >  >>