للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يُوقِع المعاصِيَ يُريد المعاصِيَ من أجل خيرٍ كثيرٍ لفاعِلها إذا تاب إلى الله تعالى؛ لأن العاصيَ إذا تاب إلى الله تعالى كان خيرًا منه قبل المَعصِية، والدليل على هذا أن آدَمَ عصا ربَّه وغوَى، وتاب إلى الله تعالى، وبعد تَوْبته اجتَباه وهَداه، ولولا هذه المَعصيةُ لم يَحصُل له الاجتِباءُ والهِداية التي حصَلَتْ بعد المَعصية، فكانت المَعصية الآنَ خَيْرًا لآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

ثُمَّ إن فيها خيرًا آخَرَ؛ فالإنسان العاصِي إذا عصا الله تعالى عرَف قَدْر نَفْسه وخَجِل من ربَّه، واستَصغَر كل عمَل خيرٍ يَفعَله؛ لأنه يَذكُر مَعصيته دائِمًا بين عَيْنيه لكن إذا لم يَعصِ ربَّما يشمخر (١) ويَعلو بأَنْفه، ويُعجَب بنَفْسه، ويَقول: أنا ما عصَيْت الله تعالى أبدًا! وما أَشبَه ذلك، ثُمَّ يَحبَط عمَله من حيث لا يَشعُر.

فهاتانِ اثنَتانِ مَصلَحتهما للعاصِي، وهناك مَصلحةٌ ثالِثة لعامة الناس، فلولا العِصيان ما قام الأَمْر بالمَعروف والنهيُ عن المُنكَر؛ لأن الناس لو كان كلهم على البِرِّ والمَعروف فبأيِّ شيءٍ نَأمُر؟! وعن أيِّ شيء نَنهَى؟! فلا يَقوم الأَمْر بالمَعروف والنهيُ عن المُنكَر إلَّا بوجود أسبابه وهي المَعاصِي.

ثالثًا: لولا المَعاصِي ما عرَف الإنسان قَدْر الإيمان الذي أَنعَم الله به عليه ولذَّتَه؛ لأن الناس لو كانوا على حَدٍّ سواءٍ ما عرَف الإنسان قَدْر نِعْمة الله عليه؛ ولهذا لا يَعرِف قَدْر العافِية إلَّا مَنِ ابتُليَ بالمرَض، وكذلك أيضًا المَعصية؛ لا يَعرِف العبد قَدْر نِعْمة الله تعالى عليه بالطاعة إلَّا إذا عرَف آثار المَعاصِي على فاعِلها.

رابِعًا: لولا المَعاصِي التي أَعظَمُها الكُفر ما قام سُوق الجِهاد؛ لأننا لو كُنَّا كلنا


(١) أي: تكبَّر. تاج العروس (شمخر).

<<  <   >  >>