للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الأنعام: ١٤٨]، ولو كان الاحتِجاج بالقدَر نافِعًا لهم ما ذاقوا بأسَ الله تعالى إذ لا يَذوق بأسَ اللهِ تعالى إلَّا مَن لا حُجَّةَ له.

أمَّا من حيثُ النظَر: فإننا نَقول لهذا المُحتَجِّ بالقدَر: ما الذي أَعلَمك أن الله تعالى كتَبَ عليك أن تَعصيَه؟ فلا يُمكِن أن يَعلَم بذلك قبل أن تَقَعَ المعصية، إِذْ إن القَدَر سِرٌّ مَكتوم لا يُعلَم به إلَّا بعد وُقوع المَقدور كما قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: ٣٤]، فإذا كنتَ لا تَعلَم به إلَّا بعد وُقوع المَقدور، فتَجعَل لفِعْلكَ حُجَّةً لم تَعلَم بها إلَّا بعد وقوع الفِعْل؛ لأنَّ الحُجَّة للفِعْل لا بُدَّ أن تَكون سابِقةً عليه، أمَّا بعد أن يَقَع فإنه لا حُجَّةَ لك في القدَر.

ونَقول: إنك ظلَمْت نَفْسك باختيار المَعصِية، قال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: ١٠١]، فأنت الآنَ ظلَمْت نَفْسَك واحتَجَجْت على ذلك بالقَدَر، فما ظنُّك لو أن أحَدًا من الناس ظلَمَك في مالِك أو عِرْضك، وقال: إن هذا قدَرُ الله تعالى. هل تَقبَل حُجَّته؟!

الجَوابُ: لا، فمَعلوم أنه لو أن أحَدًا ضرَبه أو أخَذَ ماله أو أَساء إلى أهله، وقال: هذا قدَرُ الله تعالى، لا أَستَطيع. فإنه لن يَقبَل منه هذه الحُجَّةَ، فإذا كان لا يَقبَل حُجَّة مَن ظلَمه فلماذا يَقبَل حُجَّته على نَفْسه في ظُلْمه إيَّاها؟! فهذا مُنافٍ للعَقْل.

ويُذكَر أن أمير المُؤمِنين عمرَ بنَ الخطاب - رضي الله عنه - رُفِع إليه سارِق، فأمَر بقَطْع يَدِه، فقال: يا أميرَ المُؤمِنين، والله ما سرَقْتُ إلَّا بقدَر الله. يُريد أن يَرفَع عنه حَدَّ السرِقة، فقال أميرُ المُؤمِنين عُمرُ - رضي الله عنه -: ونحن لا نَقطَعُك إلَّا بقدَر الله. لأنه إذا كان هو سرَق بقدَر الله تعالى فنحن أيضًا نَقطَعه بقدَر الله تعالى، بل نحن نَقطَعه بقدَر الله تعالى وشَرْع الله تعالى، فهو سرَقَ بقدَر الله تعالى دون شَرْع الله تعالى، فكُنَّا أَقوى

<<  <   >  >>