للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وكما قلتُ لكم إنَّ الآياتِ نَوْعان: آياتٌ مَعنَوية: وهي ما يَتَضمَّنه الوحيُ الذي جاء به هَؤلاءِ الرُّسُلُ، وآيات حِسِّية: وهي ما يَظْهَرُ من خَوارِق العادات؛ ولهذا قيل في تَعريف الآية: إنها أَمرٌ خَارِقٌ للعَادَةِ يُظهِره الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على يَدِ الرسول تَأيِيدًا له.

هذه الآياتُ قال العُلَماء - أَعنِي: الآياتِ الحِسِّيَّةَ-: إنها تَكون مُناسِبة للوَقْت الذي بُعِث فيه الرَّسول، واستَشْهَدوا لذلك بأن موسى عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُعطِيَ آياتٍ سِحْريةً؛ أي: تُشبِه السِّحْر، لكنها أَقوَى منه تَغلِبه؛ فيَضَع العصا - وهي من خشَب- على الأرض فتَنقَلِب حيَّةً تَسرَح، ويدخِل يَدَه في جيبه فتَخرُج بَيضاءَ تَلوح من غير عَيْب، أي: من غَيْر برَصٍ؛ وهذا لأنه في وَقْته كان للسِّحْر طَوْر عالٍ مُرتَفِع، فجاء بآيات تَغلِب ذلك السِّحرَ، وَيظهَر هذا حينما اجتَمَع مع السَّحَرةِ في اليوم الذي وعَدهم فيه، فأَلقَوْا حِبالهم وعِصِيَّهم، حتى خُيِّل إليه من سِحْرهم أنها تَسعَى، فأَوْجَس في نفسه خِيفةً مُوسى، فقال له الله تعالى: {لَا تَخَفْ} وأَمَره أن يَضَع العصا، فوَضَعها، فإذا هي حَيَّة تَلقَفُ ما يَأفِكون.

ثُم عِيسَى ابنُ مَريمَ بُعِث في زمَن تَرقَّى فيه الطِّبُّ تَرقِّيًا عظيمًا بالِغًا؛ فجاء بأَمْرٍ يَعجِزُ عنه الأطِبَّاء، يُبرِئ الأكمَه والأَبرَص بإِذْنِ الله، ويُحييِ المَوْتى بإِذْن الله، بل يُخرِج المَوْتى من قُبورهم بإِذْن الله، يَقف على صاحِب القَبْر ويُخاطِبه فيَقول: اخرُجْ. فيَخرُج، وهذا أَعظَمُ من الطِّبِّ الذي أتوْا به.

أمَّا مُحمَّد عَلَيه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فقد بُعِث في وَقْت بلَغت فيه البلاغة أَوَجَها، وصار النَّاسُ يَتَفاخَرون أيُّهم أَبلَغُ؛ فيَأتِي الشُّعَراء، وَيأْتي الخُطَباء إلى أسواق الجاهِلية عُكاظ وغيرِه، يَتَبارَوْن في أشعارهم وخُطَبهم؛ فجاء هذا القُرآنُ قاضِيًا عليها كلها، وأَعجَزَهم، وعجَزوا عن أن يَأْتوا بآية منه، مع أنهم هُمْ أُمَراءُ البلاغة.

<<  <   >  >>