ثُم بيَّن هذه المُحاجَّةَ فقال:{فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} الضُّعَفاء إمَّا في المال، وإمَّا في الشرَف والسِّيادة، وإمَّا في غير ذلك، مِمَّا يُعَدُّ ضَعْفًا، والغالِب أن الضَّعيف يَتبَع القَويَّ وقوله:{لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}؛ أي: تَكبَّروا من الكِبْرياء والعظَمة، والسين والتاء فيها للمُبالَغة {إِنَّا كُنَّا} يَعنِي: في الدُّنيا {لَكُمْ تَبَعًا} قال المفَسِّر رَحِمَهُ اللهُ: [جَمْع تابعٍ] أي: مُتَّبِعين {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} يَعنِي: هل تُجازونَنا على مُتابَعَتِنا إيَّاكُم بأن تَتَحمَّلوا عنَّا شيئًا من النار؟ وقولهم:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ} قال المفَسِّر رَحِمَهُ الله: [دافِعون {عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} جُزءًا من النار].
انظُرْ كيف يَتَوسَّل هؤلاءِ الضُّعفاءُ إلى الذين استكْبَروا، كيف يَتَوسَّلون إليهم بما قدَّموا من مُتابَعَتهم، ليَتَحمَّلوا عنهم نصيبًا من النار، فكان جَوابُ الذين استكْبَروا: وقوله: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} وإذا كُنَّا كلًّا فيها فكَيْف نُغنِيكم نصيبًا من النار؟ ! وهذه حُجَّة ببَيان الواقِع.
وقولهم:{إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} حكَم بينهم بحُكْمه الجَزائِيِّ؛ لأن أَحكام الله عَزَّ وَجَلَّ ثلاثة: قدَريٌّ، وشَرعيٌّ، وجَزائيٌّ. والجَزائيُّ من القدَريِّ في الواقِع، لكن بعض العُلَماء يَجعَله مُنفَصِلًا لأهمِّيَّته؛ لأنه هو الغاية، وقوله:{حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} يَعنِي: بين الناس عُمومًا، يَعنِي: بين أهل النار وأهل الجنَّة فالعُبودية هنا بمَعنَى العُبودية العامة الشامِلة؛ لأن العُبودية عامَّة وخاصَّة.
من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: تَعادِي الكُفَّارِ بعضِهم مع بعضٍ، وأن القويَّ مِنهم لا يَرحَم الضعيف لقوله:{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ}.