للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أخبرنا أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي - وقد تقدم ذكر هذا الإسناد - قال الثعالبي: قال أبو الفرج واللفظ له: تأخرت عند سيف الدولة بدمشق مكرهاً، وقد سار عنها في بعض وقائعه، وكان الخطر شديداً على من أراد اللحوق به من أصحابه، حتى إن ذلك كان يؤدي إلى الهب وطول الاعتقال، فاضطررت إلى إعمال الحيلة والسلامة بخدمة من بها من رؤساء الدولة الإخشيدية، وكانت سني في ذلك الوقت عشرين سنة، وكان انقطاعي منهم إلى أبي بكر علي بن صالح الروذباري لتقدمه في الرياسة، ومكانه من الفضل والصناعة فأحسن تقبلي وبالغ في الإحسان إلي وحصلت تحت الضرورة والمقام، فتوفرت على قصد البقاع المستحسنة، والمتنزهات المطروقة، تسلياً وتعللا، فلما كان في بعض الأيام، عملت على قصد دير مران - وهذا الدير مشهور الموقع في الجلالة وحسن المنظر - فاستصحبت بعض من كنت آنس به، وتقدمت بحمل ما يصلحنا، وتوجهت نحوه، فلما حصلنا تحته أخذنا في شأننا. وقد كنت اخترت من رهبانه لعشرتنا من توسمت فيه رقة الطبع، وسجاحة النفس، حسبما جرى به الرسم والعادة في غشيان الأغمار، وطروق الديرة من التظرف بعشرة أهلها والأنسة بسكانها، ولم تزل الأقداح دائرة بين مطرب الغناء ومزاهر المذاكرة إلى أن فض اللهو ختامه، ولوح السكر لصحبي أعلامه، فحانت مني التفاتة إلى بعض الرهبان، فوجدته إلى خطابي متوثباً، ولنظري إليه مترقباً، فلما أخذته عيني أكب يزعجني بخفى الرمز ووحي الإيماء، فاستوحشت لذلك وأنكرته، ونهضت عجلاً واستحضرته، فأدرج لي رقعة مختومة، وقال لي: قد لزمك فرض الأمانة فيما تتضمنه هذه الرقعة وسقط ذمام كاتبها في سترها بك عني، ففضضها فإذا فيها مكتوب بأحسن خط وأملحه وأقواه وأوضحه: بسم الله الحمن الرحيم. لم أزل فيما تؤديه هذه الرقعة - يا مولاي - بين حزم يحث على الانقباض عنك؛ وحسن ظن يحض على التسامح بنفيس الحظ منك، إلى أن استنزلتني الرغبة فيك على حكم الثقة بك من غير خبرة، فرفعت سجف الحشمة، وأطعت في الانبساط أوامر الأنسة، وانتهزت في التوصل إلى مودتك فأنت الفرصة. والمسماح منك - جعلني الله فداك - زورة أرتجع بها ما اغتصبتنيه الأيام من المسرة، مهنأة بالإنفراد إلا من غلامك، الذي هو مادة مسرتك.

<<  <   >  >>