ثم إن هؤلاء لهم حالانِ: تارةً يرون تحريف النصوصِ على وَفْقِ آرائهم، ويُسمُّون ذلك تأويلًا، وتارةً يرون الإعراضَ عن تدبُّرِها وعَقْلها، ويُسمُّونه تفويضًا. فهم بين التحريف والأمِّيَّة، منهم من يُوجِب هذا، ومنهم من يوجب هذا، ومنهم من يستحبُّ هذا، ومنهم من يستحب هذا، ومنهم من يُوجب أو يستحبُّ هذا لطائفةٍ وهذا لطائفةٍ، أو هذا في حالٍ وهذا في حالٍ.
وكثير من الناس لا يجمعُ هذه الصفاتِ الأربعة المذمومة، بل يكون منها خصلة أو خصلتان: إمّا الأمية وإمّا التحريف وإمّا الكتمان أو غير ذلك، ثم من كان مؤمنًا لا يكون هذا حاله في جميع القرآن، لكن في بعضِه أو في كثيرٍ منه، كما عليه طوائفُ من أهلِ الكلام ومن اتبعَهم، وربما فعلَ ذلك في أكثر القرآن، كحالِ الفلاسفة من القرامطة والباطنية ونحوهم.
ثم اعلم أن طريقة التحريف لا تُسلَكُ ابتداءً، لأن تفسير الكلام بخلاف مقتضاه لا يقبله القلبُ إلّا بموجب، بل تُسلَك ابتداءً طريقةُ الكلام والكتاب المضافِ إلى الدين وليس منه، وهو ما يُسمُّونه المعقولات التي هي المجهولات، ويجعلون ذلك هو الاعتقاد وأصول الدين التي أمرَ الله بها، والحكمة الحقيقية والعلوم اليقينية التي ينبغي للفضلاء تحصيلُها، ويَصُدُّون الناسَ عن القرآن بالطريقة الأمية، ويتفاوضون فيما بينهم بطريقة التحريف.
ولهذا يُقرِّرون أن الأدلة اللفظية لا تُفيد اليقينَ، فإن هذا يمنع ما أمر الله به من عَقْلِه وتدبُّرِه وتذكُّرِه والتفكُّرِ فيه، ويجعل الطريقة الأمّيّة حجةً،