وأمَّا أهل الاقتصاد العارفون بقدر مالكٍ، فيقولون: هو كان أعلمَ وأبينَ من أن ينهى عن رواية الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم نهيًا عامًّا، فإنَّ هذا أمرٌ بكتمان ما أمر الله بتبليغه، ومخالفةٌ لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من التَّبليغ، حيثُ دعا لصاحبه بالنَّضْرَة في مقالتها وتأديتها عنه (١).
قالوا: والنهي إنما يكون لسببٍ خاصٍّ كضعف حفظ المحدِّث، أو لدينه، أو اشتغال المحدِّث به عمّا أُوجِب عليه، ونحو ذلك، كما كان عمرُ ينهى عن الحديث الذي لم يَضبِطه صاحبه، وينهى أن يشتغل الناس عما يؤمرون به في القرآن بما لم يجب عليهم من الحديث، ونحو ذلك.
فهذا الكلام فيما نُقِل عن مالك في هذا، وأما بقية السلف الذين كانوا قبله وبعده ونظراءه فقد رووه كلَّه وبلَّغوه، وحملهُ أكابر العلماء بعضُهم عن بعضٍ.
منهم: اللَّيثُ بنُ سَعْدٍ نَظيرُ مالك، قال الشافعيُّ: كان أفقه منه، رواهُ عن محمد بن عجلان، عن المَقْبُريِّ، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يقولنَّ أحدكم لأحدٍ: قبَّح الله وجهَك، ووجهًا أشبهَ وجهَك، فإنَّ الله خلق آدم على صورته". وقال:"إذا ضرب أحدُكم فليجتنبِ الوجهَ، فإن الله خلقَ آدمَ على صورته". ورواهُ عن الليث ابنهُ شعيبٌ المشهور، وعن شعيبٍ الرَّبيعُ بن سليمان صاحب الشافعيِّ، وعن
(١) في الحديث المشهور: "نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلَّغها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه .. ". أخرجه أحمد (١/ ٤٣٦) والترمذي (٢٦٥٧، ٢٦٥٨) وابن ماجة (٢٣٢) من حديث ابن مسعود. وفي الباب عن زيد بن ثابت وأبي الدرداء وأنس بن مالك وغيرهم. وقد جمع طرقها وتكلم عليها الشيخ عبد المحسن العباد في كتاب مفرد وهو مطبوع.