والصنف الثاني: المقلِّد المنقاد بلا بصيرة ويقين، مثل ما يوجد في كثير من العلماء والفقهاء الذين لهم ذَكاءٌ وصحةُ إيمان. وإنما ذكر الثالث لأن النفس يكون ذنبها تارةً بالجهل، وتارةً بالظلم، إما بالقوة الشهوانية، وإما بالقوة الغضبية، فهؤلاء أهلُ الاعتداءِ في القوةِ الغضبية بالكبرِ والطعنِ هم القسم الأول، والجهال هم المقلدون وهم القسم الثاني، وأهل الشهوة هم القسم الثالث.
ثم ذكر خلفاءَ الرسل القائمين بحجج الله وبيِّناتِه، فقال:"لن تخلو الأرضُ من قائمٍ لله بحجته، لكيلا تَبطُل حُجَجُ الله وبيناتُه". ومعلومٌ أن الله تعالى إنما أقامَ الحجةَ على خلقِه برسُلِه، فقال:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[النساء/ ١٦٥]، فلم يَبقَ لهم بعد الرسلِ حجةٌ، وإنما تقوم الحجةُ في مغيبهم ومماتهم بمن يُبلِّغ عنهم، كما قال:"لكيلا تَبطُل حججُ الله وبيناتُه"، ولا تقوم الحجةُ حتى يُبلِّغ اللفظَ والمعنى جميعًا، إذ تبليغُ اللفظ المجرد الذي لا يدلُّ على المعنى المقصود لا تقوم به حجةٌ، بل وجودُه كعدمِه. فالقائمون بحجة الله هم المبلِّغون لما جاءت به الرسلُ لفظًا ومعنًى، ولهذا قال:"وبيناتُه" وهي ما يبين الحق.
ثم وصفَهم فقال:"هم الأقلون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا، هَجمَ بهم العلمُ على حقيقةِ الأمرِ، فاستلانُوا ما استوعَرَه المُتْرَفُون، وأَنِسُوا بما استوحشَ منه الجاهلونَ". فإنه قد ذكر أن مَن سِوى هؤلاءِ جاهلٌ أو مُتْرَفٌ، والمرءُ عدوُّ ما جَهِلَ، فيستوحشُ مما عداه ويَنفِر عنه، كما يُصيبُ المكذبين ببعض ما جاءتْ به الرسلُ من استيحاشِهم لكثيرٍ منه لجهلِهم به، وكما يُصيبُ المؤمنَ بلفظ الجاهل بمعناه، وأما العلماء فكما قال الله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ