للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سمعوه وتدبَّر ما تدبَّروه حصل له من العلم ما يَحصُل لهم. ولكن أكثر أهلِ الكلام وأتباعهم في غايةِ قلةِ المعرفةِ بالحديث، وتجدُ أفضلَهم لا يَعتقد أنه رُويَ في البابِ الذي يتكلم فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيءٌ، أو يَظُنُّ المرويَّ فيه حديثًا أو حديثين، كما تجدُه لأكابر شيوخ المعتزلةِ، مثل أبي الحسين البصري يعتقد أنه ليس في الرؤية (١) إلّا حديثٌ واحدٌ، وهو حديث جرير (٢)، ولا يَعلم أنّ فيها ما شاءَ الله من الأحاديث الثابتةِ المتلقَّاةِ بالقبول (٣)، حتى إن البخاري ومسلمًا مع كونهما مختصرين قد رويا فيه عددًا جيدًا من ذلك، والبخاريُّ هو أكبرُ من مسلم، ومع هذا فقد سماه "الجامع المسند المختصر من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه". فإنكارُ هؤلاء لما عَلِمه أهل الوراثةِ النبوية مثلُ حكايةِ كثيرٍ من الفقهاء لمذاهب الأئمة المشهورين بخلافِ المتواترِ عند أصحابهم، وقد رأيتُ من ذلك عجائبَ حينَ رأيتُ في الكتب المشهورة عند الحنفية أن مالكًا يُبِيحُ نكاحَ المتعة، وقد عُلِمَ أن مذهبَ مالكٍ يمنع توقيتَ الطلاقِ لئلَّا يُشبِه المتعةَ.

وكثير من الناس قد يَطْرُقُ سَمْعَه هذه الأحاديثُ، ولا يجمعُها وطُرُقَها في قلبه، وإن كان من سامعي الحديث وكُتَّابِه، ومعلومٌ أن حصولَ العلم في القلب بموجب التواتر مثلُ حصولِ الشِّبَع والرّيِّ، وكلُّ واحدٍ من الأنباءِ يُفيد قدرًا من الاعتقاد، فإذا تعددت الأخبارُ وقوِيتْ أفادت العلمَ، إمّا للكثرة وإمّا للقوة وإمّا لمجموعهما.


(١) في الأصل: "رؤية".
(٢) أخرجه البخاري (٥٢٩، ٥٤٧، ٤٥٧٠، ٦٩٩٧) ومسلم (٦٣٣).
(٣) ذكر ابن القيم في حادي الأرواح (ص ٥٩٣ - ٦٨٥) ثمانية وعشرين حديثًا مع بيان طرقها والكلام عليها.

<<  <  ج: ص:  >  >>