بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يَبْعُدْ، وَتُسَنُّ الْعِمَامَةُ لِلصَّلَاةِ وَلِقَصْدِ التَّجَمُّلِ لِلْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ فِيهَا وَاشْتِدَادُ ضَعْفِ كَثِيرٍ مِنْهَا يَجْبُرُهُ كَثْرَةُ طُرُقِهَا وَزَعَمُ وَضْعِ كَثِيرٍ مِنْهَا تَسَاهُلٌ كَمَا هُوَ عَادَةُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ هُنَا وَالْحَاكِمِ فِي التَّصْحِيحِ أَلَا تَرَى إلَى حَدِيثِ «اعْتَمُّوا تَزْدَادُوا حِلْمًا» حَيْثُ حَكَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِوَضْعِهِ وَالْحَاكِمُ بِصِحَّتِهِ اسْتِرْوَاحًا مِنْهُمَا عَلَى عَادَتِهِمَا، وَتَحْصُلُ السُّنَّةُ بِكَوْنِهَا عَلَى الرَّأْسِ أَوْ نَحْوِ قَلَنْسُوَةٍ تَحْتَهَا، وَفِي حَدِيثٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ كِبَرِهَا لَكِنَّهُ شَدِيدُ الضَّعْفِ وَهُوَ وَحْدُهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَلَا فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَيَنْبَغِي ضَبْطُ طُولِهَا وَعَرْضِهَا بِمَا يَلِيقُ بِلَابِسِهَا عَادَةً فِي زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ، فَإِنْ زَادَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ كُرِهَ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ إطْلَاقُهُمْ كَرَاهَةَ كِبَرِهَا وَتَتَقَيَّدُ كَيْفِيَّتُهَا بِعَادَتِهِ أَيْضًا
وَمِنْ ثَمَّ انْخَرَمَتْ مُرُوءَةُ فَقِيهٍ يَلْبَسُ عِمَامَةَ سُوقَى لَا تَلِيقُ بِهِ وَعَكْسُهُ، وَسَيَأْتِي أَنَّ خَرْمَهَا مَكْرُوهٌ بَلْ حَرَامٌ عَلَى مَنْ تَحَمَّلَ شَهَادَةً؛ لِأَنَّ فِيهِ حِينَئِذٍ إبْطَالًا لِحَقِّ الْغَيْرِ، وَلَوْ اطَّرَدَتْ عَادَةُ مَحَلٍّ بِإِزْرَائِهَا مِنْ أَصْلِهَا لَمْ تَنْخَرِمْ بِهَا الْمُرُوءَةُ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَيَأْتِي فِي الطَّيْلَسَانِ خِلَافُ ذَلِكَ وَيُفَرَّقُ بِأَنَّ نَدْبَهَا عَامٌّ فِي أَصْلِ وَضْعِهَا فَلَمْ يُنْظَرْ لِعُرْفٍ يُخَالِفُهُ، فَإِنَّ أَصْلَ وَضْعِهِ لِلرُّؤَسَاءِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَفِي حَدِيثَيْنِ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ نَدْبِهَا مِنْ أَصْلِهَا لَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ لَا أَصْلَ لَهُمَا، وَالْأَفْضَلُ فِي لَوْنِهَا الْبَيَاضُ وَصِحَّةُ «لُبْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ وَنُزُولُ أَكْثَرِ الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ بِعَمَائِمَ صُفُرٍ» وَقَائِعُ مُحْتَمَلَةٌ فَلَا تُنَافِي عُمُومَ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ الْآمِرِ بِلُبْسِ الْبَيَاضِ وَأَنَّهُ خَيْرُ الْأَلْوَانِ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْقَلَنْسُوَةِ اللَّاطِئَةِ بِالرَّأْسِ وَالْمُرْتَفِعَةِ الْمُضْرِبَةِ وَغَيْرِهَا تَحْتَ الْعِمَامَةِ وَبِلَا عِمَامَةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ جَاءَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِقَوْلِ الرَّاوِي وَبِلَا عِمَامَةٍ قَدْ يَتَأَيَّدُ بَعْضُ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ أَهْلِ النَّوَاحِي مِنْ تَرْكِ الْعِمَامَةِ مِنْ أَصْلِهَا وَتَمَيُّزِ عُلَمَائِهِمْ بِطَيْلَسَانٍ عَلَى قَلَنْسُوَةٍ بَيْضَاءَ لَاصِقَةٍ بِالرَّأْسِ، لَكِنْ بِتَسْلِيمِ ذَلِكَ الْأَفْضَلُ مَا عَلَيْهِ مَا عَدَا هَؤُلَاءِ مِنْ النَّاسِ مِنْ لُبْسِ الْعِمَامَةِ بِعَذَبَتِهَا وَرِعَايَةِ قَدْرِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا السَّابِقَيْنِ، وَلَا يُسَنُّ تَحْنِيكُ الْعِمَامَةِ عِنْدَنَا وَاخْتَارَ بَعْضُ حُفَّاظٍ هُنَا مَا عَلَيْهِ كَثِيرُونَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُسَنُّ وَهُوَ تَحْزِيقُ الرَّقَبَةِ وَمَا تَحْتَ الْحَنَكِ وَاللِّحْيَةِ بِبَعْضِ الْعِمَامَةِ
وَقَدْ أَجَبْت فِي الْأَصْلِ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أُولَئِكَ وَأَطَالُوا فِيهِ وَجَاءَ فِي الْعَذَبَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا صَحِيحٌ وَمِنْهَا حَسَنٌ نَاصَّةٌ عَلَى فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا لِنَفْسِهِ وَلِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَعَلَى أَمْرِهِ بِهَا وَلِأَجْلِ هَذَا تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَمَنْ تَعَمَّمَ فَلَهُ فِعْلُ الْعَذَبَةِ وَتَرْكُهَا وَلَا كَرَاهَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، زَادَ الْمُصَنِّفُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْ تَرْكِ الْعَذَبَةِ شَيْءٌ انْتَهَى، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِلَهُ فِعْلُ الْعَذَبَةِ، الْجَوَازُ الشَّامِلُ لِلنَّدْبِ، وَتَرْكُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا أَوْ عَدَمِ تَأَكُّدِ نَدْبِهَا،
ــ
[حاشية الشرواني]
إلَخْ أَيْ وَلَوْ دَخَلَ فِي الْمَسْجِدِ فَيُخْرِجُ يَسَارَهُ مِنْ نَعْلِهَا وَيَضَعَهَا عَلَى ظَهْرِ نَعْلِهَا ثُمَّ يُخْرِجُ يَمِينَهُ مِنْ نَعْلِهَا وَيَضَعُهَا فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ يَضَعُ الْيَسَارَ فِيهِ فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ بِخَلْعِ الْيَسَارِ وَالدُّخُولِ بِالْيَمِينِ اهـ ع ش.
(قَوْلُهُ: وَلِقَصْدِ التَّجَمُّلِ) أَيْ فِي حُضُورِ الْجُمُعَةِ وَالْمَسْجِدِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ (قَوْلُهُ: كَمَا هُوَ) أَيْ التَّسَاهُلُ (وَقَوْلُهُ: هُنَا) أَيْ فِي التَّوْضِيعِ.
(قَوْلُهُ: اسْتِرْوَاحًا) أَيْ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ عَنْ تَعَبِ التَّحْقِيقِ (قَوْلُهُ: عَلَى الرَّأْسِ) أَيْ بِلَا قَلَنْسُوَةٍ (قَوْلُهُ: أَوْ نَحْوِ قَلَنْسُوَةٍ إلَخْ) بِالْجَرِّ عُطِفَ عَلَى الرَّأْسِ (قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ شَدِيدُ الضَّعْفِ (قَوْلُهُ: وَلَا فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ) عُطِفَ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ لَا فِي غَيْرِ الْفَضَائِلِ وَلَا فِي الْفَضَائِلِ (قَوْلُهُ: عَادَةً) أَيْ بِحَسَبِ عَادَةِ أَمْثَالِهِ (قَوْلُهُ: وَعَلَيْهِ) أَيْ مَا يَزِيدُ عَلَى اللَّائِقِ (قَوْلُهُ: كَيْفِيَّتُهَا) أَيْ مِنْ حَيْثُ اللَّفُّ وَاللَّوْنُ (قَوْلُهُ: وَعَكْسُهُ) أَيْ مُرُوءَةُ سُوقِيٍّ بِلُبْسِ عِمَامَةِ فَقِيهٍ (قَوْلُهُ: بِعَادَتِهِ) أَيْ عَادَةِ أَمْثَالِهِ فِي زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ (قَوْلُهُ: وَسَيَأْتِي) أَيْ فِي الشَّهَادَاتِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ فِيهِ حِينَئِذٍ) أَيْ فِي الْخَرْمِ مَعَ كَوْنِهِ مُتَحَمِّلًا لِلشَّهَادَةِ (قَوْلُهُ: بِإِزْرَائِهَا) أَيْ تَرْكِ الْعِمَامَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي تَذَكُّرُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ عَدَمُ نَدْبِهَا مِنْ أَصْلِهَا (قَوْلُهُ: خِلَافُ ذَلِكَ) أَيْ خَرْمُ مُرُوءَةِ لَابِسِهِ إذَا اطَّرَدَتْ عَادَةُ مَحَلِّهِ بِتَرْكِهِ (قَوْلُهُ: وَفِي حَدِيثَيْنِ إلَخْ) تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ، فَإِنَّ أَصْلَ وَضْعِهِ إلَخْ، وَالْوَاوُ بِمَعْنَى بَلْ (قَوْلُهُ: لَمْ تَنْخَرِمْ بِهَا) يَعْنِي بِلُبْسِ الْعِمَامَةِ (قَوْلُهُ: وَنُزُولُ أَكْثَرِ الْمَلَائِكَةِ) أَيْ وَصِحَّةُ نُزُولِ إلَخْ (قَوْلُهُ: وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْقَلَنْسُوَةِ) أَيْ وَلَا بِلُبْسِ الْعِمَامَةِ بِلَا قَلَنْسُوَةٍ وَلَا بِشَدِّ عِصَابَةٍ عَلَى الرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ بِلَا عِمَامَةٍ كَمَا مَرَّ عَنْ السُّيُوطِيّ (قَوْلُهُ: اللَّاطِئَةِ بِالرَّأْسِ) أَيْ اللَّاصِقَةِ بِهِ (قَوْلُهُ الْمُضْرِبَةِ إلَخْ) أَيْ الْمَحْشُوَّةِ صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ لِلْقَلَنْسُوَةِ (قَوْلُهُ: وَبِلَا عِمَامَةٍ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَحْتَ الْعِمَامَةِ (قَوْلُهُ: وَبِقَوْلِ الرَّاوِي إلَخْ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ قَدْ يَتَأَيَّدُ إلَخْ (قَوْلُهُ: قَدْ يَتَأَيَّدُ بَعْضُ مَا اعْتَادَهُ) كَذَا فِي أَصْلِ الشَّارِحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِإِثْبَاتِ لَفْظَةِ بَعْضٍ وَلَا ثُبُوتَ لَهَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ مُصْطَفَى الْحَمَوِيِّ (قَوْلُهُ: وَتَمَيُّزِ إلَخْ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَرْكِ الْعِمَامَةِ (قَوْلُهُ: وَرِعَايَةِ قَدْرِهَا إلَخْ) أَيْ الْعِمَامَةِ.
(قَوْلُهُ: لَكِنْ بِتَسْلِيمِ ذَلِكَ) أَيْ التَّأَيُّدِ (قَوْلُهُ: أُولَئِكَ) أَيْ بَعْضُ الْحُفَّاظِ أَوْ الْكَثِيرُونَ مِنْ الْعُلَمَاءِ (قَوْلُهُ: وَجَاءَ فِي الْعَذَبَةِ إلَخْ) هِيَ اسْمٌ لِقِطْعَةٍ مِنْ الْقُمَاشِ تُغْرَزُ فِي مُؤَخَّرِ الْعِمَامَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ مَقَامَهَا إرْخَاءُ جُزْءٍ مِنْ طَرَفِ الْعِمَامَةِ مِنْ مَحَلِّهَا ع ش أَقُولُ بَلْ الْمُرَادُ بِالْعَذَبَةِ هُنَا مَا يَشْمَلُ إرْسَالَ طَرَفِ الْعِمَامَةِ كَمَا فِي الْمُغْنِي وَالْأَسْنَى عِبَارَةُ الْأَوَّلِ وَالسُّنَّةُ أَنْ تَكُونَ الْعَذَبَةُ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ وَيَجُوزُ لُبْسُ الْعِمَامَةِ بِإِرْسَالِ طَرَفِهَا وَبِدُونِهِ وَلَا كَرَاهَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ إرْخَاؤُهُ اهـ وَكَذَا فِي الْأَسْنَى إلَّا أَنَّهُ قَالَ بَدَلَ الِاسْتِدْرَاكِ وَصَحَّ فِي إرْخَائِهِ خَبَرُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ «كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَقَدْ أَرْخَى طَرَفَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ» اهـ.
(قَوْلُهُ: نَاصَّةٌ إلَخْ) صِفَةٌ لِأَحَادِيثَ إلَخْ (قَوْلُهُ: وَلِأَجْلِ هَذَا) أَيْ مَجِيءِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ فِي الْعَذَبَةِ (قَوْلُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِلَهُ فِعْلُ الْعَذَبَةِ) أَيْ بِأَنَّ مُرَادَ الشَّيْخَيْنِ بِقَوْلِهِمَا لَهُ فِعْلُ الْعَذَبَةِ.
ــ
[حاشية ابن قاسم العبادي]
وَخَرَجَ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ فَهَلْ فِي ذَلِكَ مِنْ عَيْبٍ أَوْ يَقْدَحُ فِي الدِّينِ وَإِذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَهَلْ هُوَ مُصِيبٌ فِي إنْكَارِهِ أَوْ مُخْطِئٌ، فَأَجَابَ لَيْسَ فِي هَذِهِ اللِّبْسَةِ مِنْ عَيْبٍ وَلَا تَقْدَحُ فِي الدِّينِ بَلْ التَّقَشُّفُ فِي الْمَلْبَسِ سُنَّةٌ حَضَّ عَلَيْهَا سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ وَهُوَ شِعَارُ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ وَنَصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَقْصِيرُ الْكُمِّ فَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -