وَلَمْ يَرْجُ ظُهُورَ الْإِسْلَامِ هُنَاكَ بِمُقَامِهِ. (اُسْتُحِبَّ لَهُ الْهِجْرَةُ) إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِئَلَّا يَكْثُرَ سَوَادُهُمْ وَرُبَّمَا كَادُوهُ وَلَمْ تَجِبْ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ وَلَمْ تَحْرُمْ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ بَيْنَهُمْ الْقَهْرَ وَالْعَجْزَ وَمِنْ ثَمَّ لَوْ رَجَا ظُهُورَ الْإِسْلَامِ بِمُقَامِهِ ثَمَّ كَانَ مُقَامُهُ أَفْضَلَ أَوْ قَدَرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالِاعْتِزَالِ ثَمَّ وَلَمْ يَرْجُ نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ بِالْهِجْرَةِ كَانَ مُقَامُهُ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ دَارُ إسْلَامٍ فَلَوْ هَاجَرَ لَصَارَ دَارَ حَرْبٍ، ثُمَّ إنْ قَدَرَ عَلَى قِتَالِهِمْ وَدُعَائِهِمْ لِلْإِسْلَامِ لَزِمَهُ وَإِلَّا فَلَا. (تَنْبِيهٌ)
يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ دَارُ إسْلَامٍ أَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ قَدَرَ أَهْلُهُ فِيهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ صَارَ دَارَ إسْلَامٍ وَحِينَئِذٍ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَوْدُهُ دَارَ كُفْرٍ وَإِنْ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ» فَقَوْلُهُمْ لَصَارَ دَارَ حَرْبٍ الْمُرَادُ بِهِ صَيْرُورَتُهُ كَذَلِكَ صُورَةً لَا حُكْمًا وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّ مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ يَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ وَلَا أَظُنُّ أَصْحَابَنَا يَسْمَحُونَ بِذَلِكَ بَلْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ فَسَادٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَوْ اسْتَوْلَوْا عَلَى دَارِ إسْلَامٍ فِي مِلْكِ أَهْلِهِ، ثُمَّ فَتَحْنَاهَا عَنْوَةً مَلَكْنَاهَا عَلَى مُلَّاكِهَا وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، ثُمَّ رَأَيْت الرَّافِعِيَّ وَغَيْرَهُ ذَكَرُوا نَقْلًا عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَسْكُنُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَقِسْمٌ فَتَحُوهُ وَأَقَرُّوا أَهْلَهُ عَلَيْهِ بِجِزْيَةٍ مَلَكُوهُ أَوْ لَا، وَقِسْمٌ كَانُوا يَسْكُنُونَهُ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ قَالَ الرَّافِعِيُّ وَعَدُّهُمْ الْقِسْمَ الثَّانِيَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ يَكْفِي فِي كَوْنِهَا دَارَ إسْلَامٍ كَوْنُهَا تَحْتَ اسْتِيلَاءِ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسْلِمٌ قَالَ: وَأَمَّا عَدُّهُمْ الثَّالِثَ فَقَدْ يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ الْقَدِيمَ يَكْفِي لِاسْتِمْرَارِ الْحُكْمِ وَرَأَيْت لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ مَحَلَّهُ إذَا لَمْ يَمْنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا وَإِلَّا فَهِيَ دَارُ كُفْرٍ انْتَهَى وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعِيدٌ نَقْلًا وَمُدْرَكًا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ وَحِينَئِذٍ فَكَلَامُهُمْ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته أَنَّ مَا حُكِمَ بِأَنَّهُ دَارُ إسْلَامٍ لَا يَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ دَارَ كُفْرٍ مُطْلَقًا. (وَإِلَّا) يُمْكِنْهُ إظْهَارُ دِينِهِ أَوْ خَافَ فِتْنَةً فِي دِينِهِ. (وَجَبَتْ) الْهِجْرَةُ. (إنْ أَطَاقَهَا) وَأَثِمَ بِالْإِقَامَةِ وَلَوْ امْرَأَةً وَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا لَكِنْ إنْ أَمِنَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ كَانَ خَوْفُ الطَّرِيقِ دُونَ خَوْفِ الْإِقَامَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فَإِنْ لَمْ يُطِقْهَا فَمَعْذُورٌ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: ٩٧] الْآيَةَ وَلِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ» وَخَبَرِ «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» أَيْ مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاسْتُثْنِيَ مَنْ فِي إقَامَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَخْذًا مِمَّا جَاءَ أَنَّ الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْلَمَ قَبْلَ بَدْرٍ وَاسْتَمَرَّ مُخْفِيًا إسْلَامَهُ
ــ
[حاشية الشرواني]
(قَوْلُهُ: وَلَمْ يُرْجَ إلَخْ) وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالِاعْتِزَالِ ثَمَّ وَلَمْ يَرْجُ نُصْرَةَ الْإِسْلَامِ بِهِجْرَتِهِ أَخْذًا مِمَّا يَأْتِي. اهـ. ع ش (قَوْلُهُ: بِمُقَامِهِ) بَدَلٌ مِنْ هُنَاكَ (قَوْلُ الْمَتْنِ اُسْتُحِبَّ لَهُ الْهِجْرَةُ) وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي إقَامَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَوْ بِحُصُولِ التَّقْوَى بِهَا لِلضُّعَفَاءِ الْعَاجِزِينَ عَنْ الْهِجْرَةِ أَخْذًا مِمَّا يَأْتِي فِي شَرْحِ وَإِلَّا وَجَبَتْ إنْ أَطَاقَهَا (قَوْلُهُ: لِئَلَّا يُكَثِّرُ إلَخْ) بِبِنَاءِ الْفَاعِلِ مِنْ التَّكْثِيرِ
(قَوْلُهُ: وَرُبَّمَا كَادُوهُ) أَيْ: أَوْ يَمِيلُ إلَيْهِمْ أَسْنَى وَمُغْنِي (قَوْلُهُ: وَلَمْ تَجِبْ) أَيْ: الْهِجْرَةُ. اهـ. ع ش (قَوْلُهُ: وَمِنْ ثَمَّ) لَعَلَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ إلَخْ
(قَوْلُهُ: وَالِاعْتِزَالِ) الْمُرَادُ بِهِ انْحِيَازُهُ عَنْهُمْ فِي مَكَان مِنْ دَارِهِمْ بُجَيْرِمِيٌّ (قَوْلُهُ: بِالْهِجْرَةِ) أَيْ: بِمَجِيئِهِ إلَيْهِمْ. اهـ. ع ش (قَوْلُهُ: كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ الْإِسْلَامُ يَعْلُو إلَخْ) دَعْوَى صَرَاحَةِ الْحَدِيثِ فِيمَا أَفَادَهُ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ إذْ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ يَعْلُوهُ انْتِشَارُهُ وَاشْتِهَارُهُ وَإِخْمَادُ الْكُفْرِ إلَى أَنْ يَأْتِيَ الْوَقْتُ الْمَوْعُودُ بِهِ قُرْبَ السَّاعَةِ وَهَذَا لَا يُنَافِي صَيْرُورَةَ بَعْضِ دَارِهِ دَارَ حَرْبٍ كَمَا لَا يُنَافِي غَلَبَةَ الْكُفَّارِ لِأَهْلِهِ وَنُصْرَتَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْوَقَائِعِ. اهـ. سَيِّدُ عُمَرَ (قَوْلُهُ: فَقَوْلُهُمْ إلَخْ) هَذَا التَّأْوِيلُ خِلَافُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ إذْ الْمُتَبَادِرُ كَوْنُهُ كَذَلِكَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَا صُورَةً فَقَطْ وَبَعِيدٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إذْ صَيْرُورَتُهُ كَذَلِكَ صُورَةٌ فَقَطْ لَا مَحْذُورَ كُلِّيًّا فِيهِ فَلْيُتَأَمَّلْ. اهـ. سَيِّدُ عُمَرَ وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الشَّارِحَ عَلَّلَ التَّأْوِيلَ الْمَذْكُورَ بِقَوْلِهِ وَإِلَّا لَزِمَ إلَخْ فَمَنْعُهُ دُونَ عِلَّتِهِ مُكَابَرَةٌ فِي عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ (قَوْلُهُ: بِذَلِكَ) أَيْ: بِعَوْدِ دَارِ إسْلَامٍ دَارَ حَرْبٍ وَكَذَا ضَمِيرُ عَلَيْهِ
(قَوْلُهُ: عَلَى مُلَّاكِهَا) أَيْ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِمْ (قَوْلُهُ: وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ) بَلْ مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحُوا بِهِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِأَخْذِ أَهْلِ الْحَرْبِ لَهُ مِنْهُ قَهْرًا فَعَلَى مَنْ وَصَلَ إلَيْهِ وَلَوْ بِشِرَاءٍ رَدُّهُ إلَيْهِ كَمَا مَرَّ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ (قَوْلُهُ: يَسْكُنُهُ الْمُسْلِمُونَ) أَيْ فِي الْحَالِ (قَوْلُهُ: أَوْ لَا) بِسُكُونِ الْوَاوِ
(قَوْلُهُ: وَعَدُّهُمْ الْقِسْمَ الثَّانِيَ) أَيْ: مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ (قَوْلُهُ: قَالَ) أَيْ: ثُمَّ قَالَ الرَّافِعِيُّ (قَوْلُهُ: إنَّ مَحَلَّهُ) أَيْ: كِفَايَةِ الِاسْتِيلَاءِ الْقَدِيمِ (قَوْلُهُ: وَحِينَئِذٍ فَكَلَامُهُمْ صَرِيحٌ إلَخْ) يُتَأَمَّلْ هَذِهِ الصَّرَاحَةُ أَيْنَ مَأْخَذُهَا مِمَّا سَبَقَ فِي كَلَامِهِ. اهـ. سَيِّدُ عُمَرَ أَقُولُ مَأْخَذُهَا رِوَايَةُ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُمْ عَدُّوا الْقِسْمَ الثَّالِثَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ أَيْضًا مَا فِي سم الْمَبْنِيُّ عَلَى أَنَّ مَأْخَذَهَا قَوْلُ الرَّافِعِيِّ فَقَدْ يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُشْعِرُ إلَخْ (قَوْلُهُ: مُطْلَقًا) أَيْ: غَلَبَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ بَعْدُ أَمْ لَا مَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا أَمْ لَا
(قَوْلُهُ: يُمْكِنُهُ) إلَى قَوْلِهِ لَكِنْ إنْ أَمِنَتْ فِي الْمُغْنِي إلَّا قَوْلَهُ وَأَثِمَ بِالْإِقَامَةِ وَإِلَى قَوْلِهِ وَاسْتَثْنَى فِي النِّهَايَةِ (قَوْلُهُ: وَجَبَتْ الْهِجْرَةُ) وَسُمِّيَتْ هِجْرَةً؛ لِأَنَّهُمْ هَجَرُوا دِيَارَهُمْ وَلَمْ يُقَيِّدُوا ذَلِكَ بِأَمْنِ الطَّرِيقِ وَلَا بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَيَنْبَغِي عَدَمُ الْوُجُوبِ إنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ خَوْفِ الطَّرِيقِ، أَوْ مِنْ تَرْكِ الزَّادِ، أَوْ مِنْ عَدَمِ الرَّاحِلَةِ. اهـ. مُغْنِي وَيَأْتِي فِي الشَّارِحِ مَا يُوَافِقُهُ (قَوْلُهُ: وَأَثِمَ بِالْإِقَامَةِ) مِنْ عَطْفٍ لَازِمٍ
(قَوْلُهُ: عَلَى نَفْسِهَا) أَيْ: أَوْ بُضْعِهَا (قَوْلُهُ: فَمَعْذُورٌ) أَيْ: إلَى أَنْ يُطِيقَهَا فَإِنْ فُتِحَ الْبَلَدُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ سَقَطَ عَنْهُ الْهِجْرَةُ أَسْنَى وَمُغْنِي (قَوْلُهُ: وَلِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ إلَخْ) فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ تَوَقُّفٌ عِبَارَةُ الْأَسْنَى وَالْمُغْنِي وَخَبَرُ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ» . اهـ. (قَوْلُهُ: وَخَبَرُ لَا هِجْرَةَ إلَخْ) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ (قَوْلُهُ: أَيْ: مِنْ مَكَّةَ) خَبَرُ وَخَبَرُ لَا هِجْرَةَ إلَخْ (قَوْلُهُ: وَاسْتَثْنَى)
ــ
[حاشية ابن قاسم العبادي]
قَوْلُهُ: أَوْ قَدَرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ إلَخْ) قَدْ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمُقَامِ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ مَعَ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ وَقَدَرُوا عَلَى الِامْتِنَاعِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ وَلَمْ يَخْتَلَّ أَمْرُ دَارِ الْإِسْلَامِ بِمُقَامِهِمْ هُنَاكَ وَلَا يَخْلُو عَنْ الْبُعْدِ فَلْيُتَأَمَّلْ. (قَوْلُهُ: وَحِينَئِذٍ فَكَلَامُهُمْ صَرِيحٌ إلَخْ) فِي الصَّرَاحَةِ نَظَرٌ خُصُوصًا مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بِالِاسْتِيلَاءِ