وَاجْتِمَاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ إنَّمَا هُوَ شَرْطٌ لِلْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، أَمَّا مُقَيَّدٌ لَا يَعْدُو مَذْهَبَ إمَامٍ خَاصٍّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ مَعْرِفَةِ قَوَاعِدِ إمَامِهِ. وَلْيُرَاعِ فِيهَا مَا يُرَاعِيهِ الْمُطْلَقُ فِي قَوَانِينِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ مَعَ الْمُجْتَهِدِ كَالْمُجْتَهِدِ مَعَ نُصُوصِ الشَّرْعِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْعُدُولُ عَنْ نَصِّ إمَامِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ مَعَ النَّصِّ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا يَخْلُو الْعَصْرُ عَنْ مُجْتَهِدٍ إلَّا إذَا تَدَاعَى الزَّمَانُ وَقَرُبَتْ السَّاعَةُ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ كَالْقَفَّالِ: إنَّ الْعَصْرَ خَلَا عَنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مُجْتَهِدٌ قَائِمٌ بِالْقَضَاءِ لِرَغْبَةِ الْعُلَمَاءِ عَنْهُ وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى الْأَعْصَارِ بِخُلُوِّهَا عَنْهُ وَالْقَفَّالُ نَفْسُهُ كَانَ يَقُولَ: لِسَائِلِهِ فِي مَسَائِلِ الصُّبْرَةِ تَسْأَلنِي عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَمْ عَمَّا عِنْدِي؟ وَقَالَ هُوَ وَآخَرُونَ مِنْهُمْ تِلْمِيذُهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَسْنَا مُقَلِّدِينَ لِلشَّافِعِيِّ بَلْ وَافَقَ رَأْيُنَا رَأْيَهُ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَلَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ وَتِلْمِيذَهُ ابْنَ دَقِيقِ الْعِيدِ بَلَغَا رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالشِّيرَازِيُّ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَذْهَبِ. اهـ. وَوَافَقَهُ الشَّيْخَانِ فَأَقَامَا كَالْغَزَالِيِّ احْتِمَالَاتِ الْإِمَامِ وُجُوهًا.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَطْلَبِ: احْتِمَالَاتُ الْإِمَامِ لَا تُعَدُّ وُجُوهًا وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ الْغَزَالِيُّ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ بَلْ، وَلَا إمَامُهُ وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهُمْ الِاجْتِهَادُ فَالْمُرَادُ بِهِ التَّأَهُّلُ لَهُ مُطْلَقًا، أَوْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ؛ إذْ الْأَصَحُّ جَوَازُ تَجَزِّيهِ، أَمَّا حَقِيقَتُهُ بِالْفِعْلِ فِي سَائِرِ الْأَبْوَابِ فَلَمْ يُحْفَظْ ذَلِكَ مِنْ قَرِيبِ عَصَرَ الشَّافِعِيِّ إلَى الْآنَ كَيْفَ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَأْسِيسِ قَوَاعِدَ أُصُولِيَّةٍ وَحَدِيثِيَّةٍ وَغَيْرِهِمَا يُخَرَّجُ عَلَيْهَا اسْتِنْبَاطَاتُهُ وَتَفْرِيعَاتُهُ وَهَذَا التَّأْسِيسُ هُوَ الَّذِي أَعْجَزَ النَّاسَ عَنْ بُلُوغِ حَقِيقَةِ مَرْتَبَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ وَلَا يُغْنِي عَنْهُ بُلُوغُ الدَّرَجَةِ الْوُسْطَى فِيمَا سَبَقَ فَإِنَّ أَدْوَنَ أَصْحَابِنَا وَمَنْ بَعْدَهُمْ بَلَغَ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَرْتَبَةُ الِاجْتِهَادِ الْمَذْهَبِيِّ فَضْلًا عَنْ الِاجْتِهَادِ النِّسْبِيِّ فَضْلًا عَنْ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ
(فُرُوعٌ)
فِي التَّقْلِيدِ يُضْطَرُّ إلَيْهَا مَعَ كَثْرَةِ الْخِلَافِ فِيهَا وَحَاصِلُ الْمُعْتَمَدِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ كُلٍّ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَكَذَا مَنْ عَدَاهُمْ مِمَّنْ حُفِظَ مَذْهَبُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَدُوِّنَ حَتَّى عُرِفَتْ شُرُوطُهُ وَسَائِرُ مُعْتَبَرَاتِهِ فَالْإِجْمَاعُ الَّذِي نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى مَنْعِ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ يُحْمَلُ عَلَى مَا فُقِدَ فِيهِ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّقْلِيدِ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِعَمَلِ نَفْسِهِ لَا لِإِفْتَاءٍ، أَوْ قَضَاءٍ فَيَمْتَنِعُ تَقْلِيدُ غَيْرِ الْأَرْبَعَةِ فِيهِ إجْمَاعًا كَمَا يُعْلَمُ
ــ
[حاشية الشرواني]
شَرْطًا فِي الْمُجْتَهِدِ أَيْ: عَلَى الصَّحِيحِ. اهـ. رَشِيدِيٌّ. (قَوْلُهُ: وَاجْتِمَاعُ ذَلِكَ) أَيْ: الْعُلُومِ الْمُتَقَدِّمَةِ. (قَوْلُهُ: إمَّا مُقَيَّدٌ) أَيْ: بِمَذْهَبِ إمَامٍ خَاصٍّ. اهـ. مُغْنِي. (قَوْلُهُ: لَا يَعْدُو) أَيْ: لَا يَتَجَاوَزُ. (قَوْلُهُ: لِرَغْبَةِ الْعُلَمَاءِ عَنْهُ إلَخْ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ يَرْغَبُونَ عَنْهُ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَكَيْفَ يُمْكِنُ إلَخْ عَنْهُ أَيْ الْقَضَاءِ. (قَوْلُهُ: وَكَيْفَ يُمْكِنُ) إلَى قَوْلِهِ: قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: قَضِيَّةُ صَنِيعِهِ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا وَإِنْ أَوْهَمَ مَا مَرَّ آنِفًا عَنْ الْمُغْنِي خِلَافَهُ. (قَوْلُهُ: عَنْهُ) أَيْ: الْمُجْتَهِدِ. (قَوْلُهُ: تَسْأَلُنِي عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَمْ عَمَّا عِنْدِي إلَخْ) هَذَا لَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِقْلَالَ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِهِ. اهـ. سم. (قَوْلُهُ: وَقَالَ هُوَ) أَيْ: الْقَفَّالُ. (قَوْلُهُ: وَآخَرُونَ إلَخْ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي وَالشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ لَسْنَا إلَخْ فَمَا هَذَا كَلَامُ مَنْ يَدَّعِي زَوَالَ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ إلَخْ. (قَوْلُهُ: وَوَافَقَهُ إلَخْ) أَيْ: ابْنُ الصَّلَاحِ. (قَوْلُهُ: مِنْهُ) أَيْ: مِنْ الْمَطْلَبِ. (قَوْلُهُ: وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ إلَخْ) هَذَا مِنْ عِنْدِ الشَّارِحِ. (قَوْلُهُ: إذْ الْأَصَحُّ جَوَازُ تَجْزِئَةِ إلَخْ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي، وَالرَّوْضِ مَعَ شَرْحِهِ فَرْعٌ يَجُوزُ أَنْ يَتَبَعَّضَ الِاجْتِهَادُ بِأَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ مُجْتَهِدًا فِي بَابٍ دُونَ بَابٍ فَيَكْفِيهِ عِلْمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِيهِ. اهـ. (قَوْلُهُ: أَمَّا حَقِيقَتُهُ) أَيْ: الِاجْتِهَادِ. (قَوْلُهُ: فِي سَائِرِ الْأَبْوَابِ) أَيْ: فِي جَمِيعِهَا. (قَوْلُهُ: وَهَذَا التَّأْسِيسُ إلَخْ) قَدْ يُشِيرُ إلَى مَا يُنَافِي قَوْلَهُ: السَّابِقَ فَالْمُرَادُ بِهِ التَّأَهُّلُ لَهُ. اهـ. أَقُولُ: يَدْفَعُ الْمُنَافَاةَ حَمْلُ قَوْلِهِ: أَوْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ عَلَى الْإِضْرَابِ. (قَوْلُهُ: عَنْهُ) أَيْ: التَّأْسِيسِ.
(قَوْلُهُ: مَرْتَبَةِ الِاجْتِهَادِ الْمَذْهَبِيِّ) أَيْ: الِاجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ فَضْلًا عَنْ الِاجْتِهَادِ النِّسْبِيِّ أَيْ: الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْأَبْوَابِ فَضْلًا عَنْ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ أَيْ: فِي جَمِيعِ الْأَبْوَابِ
. (قَوْلُهُ: وَكَذَا مَنْ عَدَاهُمْ إلَخْ) هَذَا مَعَ قَوْلِهِ: الْآتِي هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِعَمَلِ نَفْسِهِ لَا لِإِفْتَاءٍ، أَوْ قَضَاءٍ فَيَمْتَنِعُ إلَخْ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ عَدَا الْأَرْبَعَةِ مِمَّنْ حُفِظَ مَذْهَبَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَدُوِّنَ حَتَّى عُرِفَتْ شُرُوطُهُ وَسَائِرُ مُعْتَبَرَاتِهِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَقْلِيدُهُ فِي غَيْرِ الْعَمَلِ مِنْ الْإِفْتَاءِ، وَالْحُكْمِ فَلْيَتَنَبَّهْ لِذَلِكَ وَلِيُحْفَظَ مَعَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَا يَخْلُو عَنْ إشْكَالٍ. اهـ. سم. (قَوْلُهُ: مِمَّنْ حُفِظَ مَذْهَبُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ إلَخْ) أَيْ: وَلَوْ وُجِدَ وَإِلَّا فَلَا تَحَقُّقَ لَهُ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ. (قَوْلُهُ: وَسَائِرِ مُعْتَبَرَاتِهِ) أَيْ: كَعَدَمِ الْمَانِعِ. (قَوْلُهُ: وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّقْلِيدِ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي) كَأَنْ يَنْبَغِيَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ وَيَذْكُرَهُ قَوْلُهُ: كَمُخَالِفِ الْإِجْمَاعِ. (قَوْلُهُ: أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا يُنْقَضُ فِيهِ إلَخْ) قَدْ يُشْكِلُ هَذَا بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ بُطْلَانٌ بَعْدَ تَقْلِيدِ مُقَلِّدِي بَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِيمَا قُلْنَا بِنَقْضِهِ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ. اهـ. سم وَيُدْفَعُ الْإِشْكَالُ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تَقْلِيدِ الْمُقَلِّدِ لِغَيْرِ إمَامِهِ. (قَوْلُهُ: هَذَا إلَخْ) أَيْ: قَوْلُهُ: وَكَذَا مَنْ عَدَاهُمْ مَنْ حُفِظَ إلَخْ. (قَوْلُهُ: فِيهِ) أَيْ: الْإِفْتَاءِ أَوْ الْقَضَاءِ
ــ
[حاشية ابن قاسم العبادي]
قَوْلُهُ: تَسْأَلُنِي عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَمْ عَمَّا عِنْدِي؟ إلَخْ) هَذَا لَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِقْلَالَ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِهِ. (قَوْلُهُ: وَهَذَا التَّأْسِيسُ إلَخْ) قَدْ يُشِيرُ إلَى مَا قَدْ يُنَافِي قَوْلَهُ السَّابِقَ فَالْمُرَادُ بِهِ التَّأَهُّلُ لَهُ.
(قَوْلُهُ: وَكَذَا مَنْ عَدَاهُمْ مِمَّنْ حُفِظَ مَذْهَبُهُ إلَخْ) هَذَا مَعَ قَوْلِهِ الْآتِي: هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِعَمَلِ نَفْسِهِ لَا لِإِفْتَاءٍ، أَوْ قَضَاءٍ فَيَمْتَنِعُ تَقْلِيدُ غَيْرِ الْأَرْبَعَةِ فِيهِ إجْمَاعًا صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ عَدَا الْأَرْبَعَةِ مِمَّنْ حُفِظَ مَذْهَبُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَدُوِّنَ حَتَّى عُرِفَتْ شُرُوطُهُ وَسَائِرُ مُعْتَبَرَاتِهِ يَمْتَنِعُ تَقْلِيدُهُ فِي غَيْرِ الْعَمَلِ مِنْ الْإِفْتَاءِ، وَالْحُكْمِ فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ وَلْيُحْفَظْ مَعَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَا يَخْلُو عَنْ إشْكَالٍ (قَوْلُهُ: وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّقْلِيدِ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي) قَدْ يُشْكِلُ هَذَا بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ بُطْلَانُ تَقْلِيدِ مُقَلِّدِي بَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِيمَا قُلْنَا بِنَقْضِهِ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ