للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فما مضت الآيام حتى تحوَّلت الحلقة إلى زفر، وبقي البَتِيّ وحده (١). ثم صار مذهب زفر هو الشائع في البصرة.

فالسبب الرئيس في الخلاف في الفروع بين الفقهاء هو اختلاف الأصول والقواعد

التي بنوا عليها هذه الفروع (٢)، ولا يمكن للفقيه أن يكون مجتهداً إلا إذا كان له أصول.

ومن بين هؤلاء المجتهدين الكثيرين تلَّقت الأمّة اجتهاد الأئمة الأربعة المتبوعين دون سواهم (٣)؛ لأسباب كثيرة كدقّة أصولهم واشتهار تقواهم وورعهم وكثرة تلاميذهم وغير ذلك، وكلُّ واحد منهم قدَّمَ لنا عصارة وخلاصة ما في القرآن والسنة وآثار الصحابة من الأحكام الفقهية المرتكزة على قواعده، والخالصة عن التعارض والاضطراب الظاهري الذي يرد على الآيات والأحاديث والآثار فيما بينها، ففي هذا الدور قطع الفقه شوطاً كبيراً في انفصاله عن مورده واستقلاله في مسائل وفتاوى شاملة لجميع أبوابه.

مما حدى بتلاميذ الأئمة الأربعة ومَن تبعهم أن يكملوا ما بدأه هؤلاء الأئمة، ويتمِّموا بناءه، لا أن يعودوا ويفعلوا كما فعلوا إذ فيه إعادة لَما تَّم وانتهى، فكلٌّ منهم


(١) انتهى من «لمحات النظر في سيرة الإمام زفر» (ص ١٨)، و «مقدمات الإمام الكوثري» (ص ٣٠١ - ٣١٢) وغيرهما.
(٢) كون الخلاف الفقهي بين المذاهب راجعاً إلى الأصول قرَّره كثير من العلماء الكبار، منهم: اللكنوي في كتاب «إمام الكلام في القراءة خلف الإمام»، والكشميري في «نيل الفرقدين في رفع اليدين» فكلٌّ منهم بعدما أفاض في عرض المسألة وبيان أدلة كل طرف، قرَّر ذلك. وعن استيفاء الأئمة المتبوعين لأدلة الأحكام سئل ابن خزيمة هل تعرف سنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتابه؟ فقال: لا. ينظر: «معنى قول الإمام المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي» (ص ١٠٦)
(٣) قال الحطاب المالكي: إنما وقع الإجماع عليها؛ لأنها انتشرت حتى ظهر فيها تقييد مطلقها وتخصيص عامّها وشروط فروعها، فإذا أطلقوا حكماً في موضع وجد مكملاً في موضع آخر، وأما غيرهم فتنقل عنهم الفتاوى مجرّدة، فلعلّ لها مكملاً أو مقيّداً أو مخصصاً لو انضبط كلام قائله لظهر فيصير الإنسان في تقليده على غير ثقة، ومن دوّن مذهبه كالثوري والأوزاعي وداود الظاهري فقد انقرض مذهبه وصار كأن لم يدون ولم يدون مذهب عالم من علماء السنة غير مذاهب هذه السبعة. ينظر: «لزوم طلاق الثلاث» (ص ٢ - ٣). وأما حكم التزام مذهب معيَّن وجواز الانتقال من مذهب لآخر فقد فصّل فيه الشنقيطي في «قمع أهل الزيع والإلحاد» (ص ٤٠ - ٤١).

<<  <  ج: ص:  >  >>