للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولو أودعَ الغاصبُ ضَمَّن أيُّهما شاء، ولو ادَّعى كلٌّ من رجلينِ ألفاً مع ثالثٍ أنَّه له أودعَه إيَّاه، فنَكَلَ لهما، فهذا وألف آخر عليه لهما

(ولو أودعَ الغاصبُ ضَمَّن أيُّهما شاء)، هذا بالاتفاق فهما قاسا مُودَعَ المودَعِ على مُودَعِ الغاصب، فإنّ المودَعَ إذا دَفَعَ إلى الأجنبي صارَ غاصباً، وفَرَّقَ (١) أبو حنيفةَ بأن المودَعَ إذا دَفَعَ إلى الغيرِ لا يضمنُ ما لم يفارقْه، فإذا فارقَ تركَ الحفظ فيضمنُ، ولا يضمنُ الآخر؛ لأنَّه صارَ مودَعاً حيث غابَ الآخر ولا صنعَ له في ذلك، كثوبٍ ألقتْهُ الرَّيحُ في حجرِ إنسان.

(ولو ادَّعى كلٌّ من رجلينِ ألفاً مع ثالثٍ أنَّه له أودعَه إيَّاه، فنَكَلَ لهما، فهذا وألف آخر عليه لهما): ادَّعى زيدٌ على عمروٍ أنَّ هذا الألفَ الذي في يدِك أودعتُهُ إيَّاك، وادَّعى بكرٌ على عمرو كذلك، ولا بيِّنةَ لأحد، وعمروٌ منكر، فالقاضي يُحَلِّفَهُ لكلِّ واحدٍ على الإنفراد، ويبدأُ بأيِّهما شاء، فإن تشاحّا أقرع بينهما، وإن نَكَلَ لأحدِهما يُحَلِّفُهُ للآخر، فأن نَكَلَ له أيضاً، فهذا الألفُ مع ألف آخر عليه يكون لهما؛ لأنَّه أوجبَ الحقَّ لكلِّ واحدٍ منهما سواءٌ بالبَذْل، أو بالإقرار، وذلك حجَّةٌ في حقِّه، ويصرفُ الألفُ إليهما، وصارَ قاضياً نصف حقِّ كلٍّ منهما بنصف حقِّ الآخر فيغرمه.

واعلم أنَّ النُّكولَ هنا يفارقُ الإقرار، فإنَّه إذا أقرّ لأحدِهما يقضى له، ولا يحلفُ للآخر؛ لأنَّ الإقرارَ حجَّةٌ بنفسِه، والنُّكولُ إنِّما يصيرُ حجَّةً بقضاءِ القاضي، فجازَ تأخير القضاء ليحلفَ للثَّاني حتى إذا نَكَلَ لأحدِهما، وقضى القاضي به، فعلى روايةِ فخرِ الإسلام البَزْدَوِيِّ - رضي الله عنه - يَحْلِفُ للثَّاني، فإن نَكَلَ يقضي بينهما؛ لأنَّ القضاءَ للأوَّلِ لا يبطلُ حقَّ الثَّاني، وعلى روايةِ الخَصَّاف - رضي الله عنه - لا يحلفُ للثَّاني؛ لأنَّ القضاءَ وَقَعَ في مجتهدٍ فيه؛ لأنَّ بعضَ العلماءِ قال: إذا نَكَلَ لأحدِهما يقضى له، ولا يؤخَّر ليحلفَ للثَّاني؛ لأنَّ النُّكول كالإقرار، وفي الإقرار لا يؤخَّر (٢). (والله أعلم) (٣).


(١) حاصلُه: إنَّ الفرقَ لأبي حنيفة حيث لم يضمنْ الثاني في مودَعِ المودَع، وضَمِنَ في مودعِ الغاصب: أنَّ المال وصلَ إلى مودَعِ المودَع من أمين، فلم يكن متعدّياً بوضعِ يده عليه، ووصل إلى مودعِ الغاصب من متعدٍّ، وكان متعدِّياً بوضعِ يده عليه. ينظر: «كمال الدراية» (ق ٤٧٥).
(٢) يعني إذا قضى القاضي للأوَّل حين نكوله للثاني فعلى ما ذكره فخرُ الإسلام البَزْدَوِيّ في «شرح الجامع الصغير»: يحلفُ للثاني، فإذا نكل للثاني يقضى بالألف، ويغرم ألفاً آخرَ بينهما، فإنَّ القضاءَ للأوّل لا يبطلُ حقّ الثاني؛ لأنّ القاضي يقدّمُ الأوّل على الثاني، إمّا باختياره أو بالقرعة، وعلى كلِّ حالٍ لا يبطلُ حقُّ الثاني، وعلى ما ذكرَه الخصّافُ نفذَ قضاءُ القاضي للأوّل، ويكون الألفُ له، ولا يكون بينهما، فلا يحلف للثاني؛ لأنَّ قضاءَ القاضي إنّما وقعَ في أمرٍ مجتهدٍ فيه؛ لأنَّ بعض العلماء قائلٌ بأنّه يقضى للأوَّلِ بالنكول، ولا يؤخّر القضاء للتحليفِ للثاني؛ لأنَّ النكولَ إقرارُ دلالة، ولا يؤخّر القضاءَ في الإقرار. ينظر: «العناية» (٧: ٤٦٣).
(٣) زيادة من ب و ف.

<<  <  ج: ص:  >  >>