فهكذا معاملة الزهاد والعباد في توبيخ أنفسهم وعتابها فإن مطلبهم من المناجاة الاسترضاء ومقصودهم من المعاتبة التنبيه والاسترعاء.
فمن أهمل معاتبة نفسه وتوبيخها وأهمل مناجاتها لم يكن لنفسه مراعيًا فنسأل الله العظيم الحي القيوم معرفة حقيقة بأحوال أنفسنا وغرورها.
وختامًا فالعاقل من بذل وسعه في التفكر التام وعلم أن دار الدنيا رحلة فجمع للسفر رحله.
فمبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطون الأمهات ثم إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم الحشر ثم إلى دار الإقامة الأبدية.
فدار الإقامة للمؤمن هي دار السلام من جميع الآفات وهي دار الخلود والعدو سبانا منها إلى دار الدنيا.
فالواجب علينا الاجتهاد في فكاك أسرنا ثم في حث السير إلى الوصول إلى دارنا الأولى في مثل هذا قيل:
فحَيَّ على جَنَّاتِ عَدْنٍ فإنَّها ... مَنَازلُكَ الأُوْلَى وفيها المُخَيَّمُ
وَلَكِنَّنَا سَبْي العَدُوِّ فَهَل تَرَى ... نُرَدُّ إِلى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ
آخر:
تَرَكْتُ هَوَى لَيْلَى وَسُعْدَى بِمَعْزِل ... وعُدْتُ إلى تَصْحِيحِ أَوْلَ مَنْزِلِ
وَنَادَتْ بي الأشْوَاقُ مَهْلاً فَهَذِهِ ... مَنَازِلُ مَنْ تهوى رُوَيْدَكِ فَانْزلِ
ثم أعلم أن مقدار السير في الدنيا يسير ويقطع بالأنفاس كما قيل:
وما نَفَسٌ إِلَّا يُبَاعِدُ مَوْلِدًا ... ويُدْنِي المَنَايَا لِلنُّفوس فَتَقْرُبُ
ويسير الإنسان في هذه الدنيا سير السفينة لا يحس بسيرها وهو جالس فيها كما قيل:
وإنَّا لَفِي الدنيا كَرَكْبِ سَفِيْنَةٍ ...