الآخرة عاملاً بقوله تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، ولو أنه تأمل قليلاً لوجد أن لذائذ الدنيا متولدة من آلامها فمثلاً لذة الطعام لا تتحقق إلا بألم الجوع ولذة الشراب لا بد أن يسبقها حُرقة العطش ولذة النوم لا يجد الإنسان لها شوقاً إلا بعد أن يُضنيه التعب الشديد وهناك نوعٌ آخر من الحكمة غفل عنه الكثيرون من الناس وهو أنها بمثابة براطيل تحمل الإنسان على قوامه وبقاء حياته فلذة الطعام تدفعه إلى ألا يُهمل جسمه من الغذاء ولولا ما جعل الله من لذة النكاح لانقرض النوع الإنساني من الوجود ولما وجدنا دابة تدب على وجه الأرض ولا طائراً يطير في السماء وكذلك فرحة الأم بطفلها تُنسيها آلام الحمل والوحم والولادة والتعب والنصب والرضاع والسهر الطويل في التمريض مما يقض مضجعها ويُنسيها نفسها فسبحان الحكيم العليم الذي خلق كل شيءٍ فقدره تقديراً، انتهى بتصرفٍ يسير.
[٧١ - موعظة]
كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز في ذم الدنيا كتاباً طويلاً قال فيه: أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام وإنما أنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها والغِنى فيها فقرها تُذل من أعزها وتُفقر من جمعها كالسُّم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه فاحذر هذه الدار الغرارة الختالة الخداعة وكن أسر ما تكون فيها إحذر ما تكون لها، سرورها مشوب بالحزن وصفوها مشوب بالكدر فلو كان الخالق لم يُخبره عنها خبراً ولم يضرب لها مثلاً لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل فكيف وقد جاء من الله عز وجل عنها زاجر وفيها واعظ فما لها عند الله سبحانه قدر ولا وزن، ما نظر إليها مُنذُ خلقها ولقد عُرضت على نبينا - صلى الله عليه وسلم - مفاتيحها