المستقيم. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله؛ جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وتعلقت القلوب بصاحب الطول والمتفضل عليها؛ وليس أعظم إحسانًا، ولا أكبر تطولاً –بعد الله- من الوالدين. من أجل ذلك، قرن الله تعالى حقهم –في الإحسان إليهم، وحسن الرعاية بهم- بحقه في العبادة والإخلاص. قال تعالى:{وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}[النساء: ٣٦] . فأمر بالعبادة له وحده دون سواه، وخص الوالدين بالوصية في الإحسان إليهما، والعطف عليهما، والبر بهما؛ فقد أحسنا منذ البداية في كل وجوه الإحسان؛ وكان لإحسانهما الأثر البارز، إلى أن بدأ النضوج، وتفتح الوعي، وبلغ الولد أشده، وبلغا نهاية مرحلة الحياة؛ فتطلعا لرد الجميل إلى البر والإحسان من ولدهما، إلى الصلة والمعروف، إلى تنفيذ وصية الله تعالى ورسوله فيهما. ولكنهما فوجئا من البعض بما لم يكن منتظرًا؛ فوجئا بالعقوق والتنكر للجميل، ومقابلة الإحسان بالإساءة؛ فوجئا بالتهكم والاستهزاء والسخرية، توجه إليهما من ولدهما المرتجى؛ فوجئا بالضرب من حبيبهما، وقد تناسى ماضيه، واعتز بحاضره، وأعجب بشبابه؛ وشمخ بثقافته وتعليمه، أو بماله وجاهه، أو بسلطانه وسعة نفوذه. وما علم المسكين أنه مخدوع، وأن هذا التصرف الطائش سوف يلقى جزاءه عاجلاً في الدنيا فيعقه ولده، وتضيق عليه مسالك الرزق، ويقضي حياته خاملاً مكدودًا.
صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل الذنوب يغفر الله منها ما شاء، إلا عقوق الوالدين: فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات. أما عقوبته في الآخرة: فالنار وغضب الجبار. ألا وإن نار الآخرة لتزيد عن نار الدنيا