للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نحوية، واحتج لها بشواهد الشعر واللغة، وسار النحويون بعده على منهجه.

ومن أمثلة ذلك عنده قوله: «وسألتُ الخليلَ عن قوله عَزَّوَجَلَّ: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: ١٠] (١)، فقال: هو كقولِ زُهير بن أبي سُلْمى:

بَدا لِيَ أَنِّي لَستُ مُدركَ ما مَضَى ... ولا سابِقٍ شَيئًا إذا كانَ جَائِيا (٢)

وإِنَّما جَرُّوا؛ لأَنَّ الأول قد يدخله الباء، فجاءوا بالثاني، وكأنهم قد أثبتوا في الأول الباء، فكذلك هذا لما كان الفعل الذي قبله، قد يكون جزمًا ولا فاء فيه تكلموا بالثاني، وكأنهم قد جزموا قبله، فعلى هذا تَوهَّموا هذا». (٣)

وسيبويه هنا يُشيرُ إلى أَنَّ جَرَّ قولهِ: «سابقٍ»؛ لأن «مُدركَ» قد تدخلُ عليه الباءُ فتجره فيكون «لستُ بِمُدركٍ»، فجروا «سابق»؛ لأَنَّه معطوف على موضعِ «مُدرك» توهُّمًا أَنَّ «مدرك» مجرور، فالباء مفقودة وأثرها وهو الجَرُّ موجود، وظهر أثرها في المعطوف عليه «سابق» لا في المعطوف «مدرك». وأما الآية - على قول الخليل - فهي جزمٌ على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني، والشرط هنا ليس بظاهر، وقد قرَّرَ النحويون أَنَّ العطفَ على الموضع لا يصح إلا حيث يظهر الشرط، كقوله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)} [الأعراف: ١٨٦] (٤) واستشهادُ الخليلِ بالشاهدِ الشعريِّ هنا من باب الموازنة الأسلوبية؛ حيث ناظَرَ جَزْمَ قولهِ: {وَأَكُنْ} في الآية بِجَرِّ قوله: «سابق» في الشاهد الشعري؛ فإِنَّ جَرَّ «سابق» عطفًا على «مدرك» الذي هو خَبْر «ليس» على توهم زيادة الباء فيه؛ لأنه كَثُر جَرُّ خَبَرِها بالباء المزيدة.


(١) المنافقون ١٠.
(٢) رواية الديوان: ولا سابقِي شيءٌ. انظر: ديوانه ٢٨٧.
(٣) الكتاب ٣/ ١٠٠ - ١٠١، وانظر: ٣/ ٥٠.
(٤) الأعراف ١٨٦.

<<  <   >  >>