للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد ذكر بعد ذلك الدليل على أن ما تحدي به العرب هو نظم القرآن وبلاغته، وأنه يستوي قليل القرآن وكثيره في الإعجاز، وأن العرب الذين نزل عليهم القرآن، ووكلهم الله إلى أمانتهم في البيان والفصاحة، ليحكموا على هذا الكلام، فما خانوا الأمانة، واعترفوا بعجزهم عن النسج على منواله، وهذا دليل على أنهم قد بلغوا حدًا من الفصاحة والبلاغة، مكنتهم من أن يفهموا وجه الإعجاز في هذا القرآن.

قال ابن عطية عند تفسير قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨)} [الإسراء: ٨٨] (١): «سبب هذه الآية أنَّ جَماعةً من قريش قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا مُحمدُ جئنَا بآية غريبةٍ غير هذا القرآن فإِنَّا نقدرُ نحن على المَجيء بِمثل هذا، فنَزَلت هذه الآيةُ المصرِّحةُ بالتعجيزِ، المُعلِمةُ بأَنَّ جَميع الخلائقِ إنسًا وجِنًا لو اجتمعوا على ذلك لم يقدروا عليه. والعجزُ في معارضةِ القرآنِ إِنَّما وقعَ في النَّظمِ والرَّصفِ لِمعانيهِ، وعِلَّةُ ذلك الإحاطةُ التي لا يتصفُ بِها إلا اللهُ تعالى، والبَشَرُ مُقصِّرٌ ضرورةً بالجهل والنسيان، والغفلةِ وأنواع النقص، فإذا نظمَ كلمةً خفي عنه - للعللِ التي ذكرنا - أليقُ الكلامِ بِها في المعنى». (٢)

وذكرَ تفرُّدَ العرب بفهمهم السليقي للقرآن فقال: «وفهمت العربُ بِخُلوصِ فهمِها في مَيْزِ الكلام، ودُربتِها بهِ ما لا نفهمهُ نحنُ، ولا كُلُّ مَنْ خالطته حضارةٌ، ففهموا العجزَ عنه ضرورةً ومشاهدةً، وعلمهُ الناسُ بعدهم استدلالًا ونظرًا، ولِكُلٍّ حَصلَ علمٌ قطعيٌّ، لكن ليس في مرتبةٍ واحدةٍ». (٣)

ولذلك فإنه ينبغي لدارس إعجاز القرآن أن يرجع إلى كلام هذه الطبقة التي بلغت هذا المبلغ من الفصاحة والبيان، لينظر ما فيه من أوجه


(١) الإسراء ٨٨.
(٢) المحرر الوجيز (قطر) ٩/ ١٨٥ - ١٨٦.
(٣) المصدر السابق ٩/ ١٨٧.

<<  <   >  >>