يَعنِي: التي فَوْقَهم "كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابرَ فِي الْأُفُقِ"(١)، يَعنِي: بعيدًا وله إِضاءة، وقال تعالى:{لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ}[الزمر: ٢٠].
ولكن يُقال في تَوجيه هذه الآيةِ الكَريمة {حَيْثُ نَشَاءُ}:
الوَجهُ الأوَّلُ: إمَّا أن المَعنَى: نَتَبوَّأ من الجَنَّة حيث نَشاء في الدُّنيا، يَعنِي: نَعمَل في الدُّنيا ما نَشاءُ من الأعمال التي تُبوِّئُنا النُّزُل التي هي ثوابٌ لأعمالنا، ففي الدنيا قد يَكون الإنسان مع الأبرار الأخيار، وقد يَكون مع المُقتَصِدين، وقد يَكون من الظالمِين أنفسَهم؛ قال تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}[فاطر: ٣٢]، فالإنسان في الدُّنيا يُمكِن أن يَتَبوَّأ من الجَنَّة حيث يَشاءُ بأعماله الصالِحة المُختَلِفة، فهو إمَّا: ظالِم لنَفْسه، أو مُقتَصِد، أو سابِقٌ بالخَيْرات.
الوجهُ الثاني: أن نَقول: {حَيْثُ نَشَاءُ} أن كل واحِد من أهل الجَنَّة لا يَشاء سِوى الذي هو فيه، يَعنِي: لا يَقَع في قَلْبه أن يَتَمنَّى أنه فوقُ، بل هو مُطمَئِنٌّ تمَامًا في مكانه الذي هو فيه؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (١٠٧) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: ١٠٧، ١٠٨] , يَعنِي: لا يَطلُبون تَحوُّلًا، كل واحد منهم راضٍ بما هو فيه، ولا يَرَى أن أحَدًا أَنعَمَ منه، حتَّى لو رآه حِسًّا لم يَرَه قَلْبًا؛ لأنَّه لو رأَى أحَدًا من الناس أعلى منه لكان في قلبه شيءٌ من الحَسْرة واللَّوْعة، وهذا مُنتَفٍ في الجَنَّة.
(١) أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، رقم (٦٥٥٦)، ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف، رقم (٢٨٣١)، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.