لما ذكر الله ابتداءَ الخَلْق الأَوَّل وهو آدم ذكر ابتداءَ الخلق الثاني وهو النَّوْع الإنساني، النوعُ الإنسانِيُّ كيف خُلقَ؟ فقال:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}: {فِي} للظَّرْفِيَّة، والبطون جمع بَطْن، والأصل: أنَّ هذه المادَّةَ (الباء والطاء والنون) خلافُ الظُّهورِ؛ فالبطون خَفِيَّة، والظُّهور ظاهِرَة.
ومن أسماء الله:(الظَّاهِر والباطِنُ) الظاهر: العالِم، والباطِنُ: الذي لا يَحُول دونه شيءٌ، فهنا البطون إذن جمع بَطْنٍ، وهو مُشْتَقٌّ من البطون، بَطَنَ الشَّيْءُ بُطُونًا، أي: خَفِيَ.
وقوله:{أُمَّهَاتِكُمْ} جمع: أمٍّ أو أمَّهَة، ويقال: أُمَّاتٌ لغير العاقل، ويقال في العاقل: أمَّهَاتٌ.
وقوله:{خَلْقًا} مصدر يَخْلُق {مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} أي: خَلْقًا متطوِّرًا ينتَقِلُ من خَلْقٍ إلى آخر؛ قال المُفَسِّر رَحِمَهُ اللهُ:[أي: نُطَفًا، ثم عَلَقًا، ثم مُضَغًا]، وقد أشار الله تعالى إلى هذه الأصول في قوله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}[الحج: ٥].
من تراب باعتبارِ آدَمَ، من نطفة باعتبارِ النَّوْعِ الإنسانيِّ، ثم من عَلَقَةٍ، ثم من مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وغير مُخَلَّقة؛ والمضغة: هي قِطْعَةُ اللَّحْم بِقَدْرِ ما يُمْضَغ.
وقد بيَّن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مُدَّةَ هذا التَّطوُّر في حديث ابنِ مسعود - رضي الله عنه -، قال:"إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونَ عَلَقَةً مِثلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بأَرْبَع كَلِمَاتٍ: بكَتْب رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ"(١)
(١) أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم (٣٢٠٨)، ومسلم: كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، رقم (٢٦٤٣).