للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واعلَمْ أيضًا أن الناس اختَلَفوا في الأسباب على ثلاثة أقوال: طرَفان ووسَط، طرَف من الناس أَثبَتَ الأسباب، وأنها فاعِلة بنَفْسها يَعنِي: أنه إذا وُجِد السبَب لزِمَ وُجود المُسبَّب ولا بُدَّ، وطائِفة أُخرى أَنكَرت تَأثير الأسباب وقالوا: الأَسْباب لا تُؤثِّر؛ لأنك لو جعَلْت هذا مُتأثِّرًا بسبب لأَثبَتَّ لله شريكًا في الإيجاد، وهذا شِرْك.

الطائِفة الثالِثة: قالتِ: الأسباب مُؤثِّرة بلا شَكٍّ، لكن لا بنَفْسها، بل بما أَودعَ الله فيها من القُوَّة التي صارت بها مُؤثِّرة، ما هي بنَفْسها غير مُؤثِّرة، لكن الله تعالى أَودَع فيها قُوًى تُؤثِّر، ولو شاء الله تعالى لسلَب تِلْك القُوَى فلم تُؤثِّر.

وهذا قَوْل وسَط، وهو مَذهَب أهل السُّنَّة والجَماعة، وهو الذي يُوافِق السَّمْع والعَقْل.

وأَضرِب لك مثَلًا: رجُل رَمَى زُجاجة بحجَر فانكَسَرَت، مُثبِتو الأسبابِ يَقولون: الذي كسَرها الحجَرُ بذاته. ونافو الأَسبابِ يَقولون: الحَجَر لم يَكسِر الزُّجاجةَ، لكِن انكَسَرَت الزُّجاجة عند رَمْيها بالحجَر، وليس بالحجَر، وإنما الحَجَر أَمارة فقَطْ، أَمارة حصَل الشيء عِندها، وكَذلِك بَقيَّة الأسباب. والوسَط يَقولون: الحجَر كَسَر الزُّجاجة، فهو السبَب بما جعَلَ الله تعالى في الحجَر من قُوَّة، وبما جعَل في الزُّجاجة من قابِلية تَقبَل الانكِسار، وهذا هو الحَقُّ.

ثُم إذَا أَلقَيْنا في النار ورَقة فاحتَرَقَت، مُثبِتو الأسباب الذين يَقولون: إن الأسباب تُؤثِّر بنَفْسها. يَقولون: النار أَحرَقَت الورَقة، ولا بُدَّ. ونافو الأسبابِ يَقولون: إن النار لم تُحرِق الورَقَ ولكِن احتَرَقَت الورَقة عند إلقائِها في النار لا بالنار. والوَسَط يَقولون: احتَرَقَت الورَقة بالنار بما جعَل الله تعالى في النار من قُوَّة الإِحْراق،

<<  <   >  >>