للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أَقول: الأُصوليُّون اختَلَفوا في هذه الأمرِ هل هو للوُجوب أو للنَّدْب؟ يَعنِي: هو المُرادُ الأمر المُطلَق المُجرَّد عن القَرينة، أمَّا ما دلَّت عليه القَرينة؛ فالأمر فيه واضِحٌ، إن دلَّت على الوُجوب فهو واجِب، وإن دلَّت على الاستِحْباب فهو مُستَحَبٌّ، وإن دلَّت على الإباحة فهو مُباح، وإن دلَّتْ على التَّهديد فهو للتَّهْديد.

قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} هل المَعنَى أن الإنسان يَعمَل ما يَشاءُ، أو أن هذا تَهديد؛ الجوابُ: تَهديد. {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، لكن المُراد الأَمْر المُجرَّد عن كل قَرينة، هل هو للوُجوب أو للاستِحْباب؟ من العُلَماء مَن قال: إنه للوُجوب، ولهم أدِلَّة. ومنهم مَن قال: إنه للاستِحْباب، ولهم أدِلَّة.

القائِلون بالوُجوب يَستَدِلُّون بمِثْل قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: ٦٣] قالوا: هذا يَدُلُّ على الوَعيد فيمَن خالَف أَمْر الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيَدُلُّ إِذَنْ على أن الأَمْر للوُجوب. وقالوا أيضًا: إن الرَّسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال: "مَما أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتنِبوه" (١) وهذا أيضًا يَدُلُّ على الوُجوب؛ لأنه قال: "فَأْتُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ" مثل هذا التَّعبيرِ إنَّما يَكون في الواجِب "وَمَا نَهَيْتكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ"؛ ولأنه يَقبُح عادةً أن يَقول السَّيِّد لعَبْده: افعَلْ كذا. ثُم يُخالِف، فتكون مخُالَفة الأمر قَبيحة، والقبيح مَنهيٌّ عنه مَكروهٌ.

أمَّا القائِلون بأن الأصل في الأمر الاستِحْباب فتقولون: إن كونه مَأمورًا به يَدُلُّ على فِعْله، والأصل بَراءَة الذِّمَّة، فلا نُؤثِّم الإنسان إذا تَرَكَ ما أُمِر به إلَّا بدَليل؛


(١) أخرجه البخاري: كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رقم (٧٢٨٨)، ومسلم: كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، رقم (١٣٣٧)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

<<  <   >  >>