والرابعة: أن النفسَ تنكسر بالكسب ويقلُّ طغيانُها ومرحُها.
وكلُّ واحدٍ من هذه الأشياء خصالٌ حميدةٌ في الشرع، ينال الرجلُ بها الدرجةَ الرفيعةَ.
وشرطُ المكتسب: أن يعتقدَ الرزقَ من الله الكريم، ونسبةُ الكسب إلى الرزق كنسبة الطعام إلى الشِّبَع؛ فإن الشبعَ لا يحصل من الطعام، بل من الله، فرُبَّ أَكلةٍ تُشبع الآكِلَ إذا قدَّر الله فيها الشبعَ، وربُّ أَكلةٍ لا تُشبع إذا لم يُقدِّر الله فيها الشبعَ، فكذلك رُبَّ مكتسبٍ يحصل له مالٌ إذا قدَّر الله له المال، ورُبَّ مكتسبٍ لا يحصل له المالُ إذا لم يقدَّر الله له المال.
قوله:"إن نبيَّ الله داود - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل من عمل يديه"؛ يعني: يعمل الدِّرعَ ويبيعها ويأكل ثمنَها.
هذا الحديثُ لبيان فضيلة الكسب؛ يعني: الاكتسابُ من سُنَنِ الأنبياء، وسُنَنُ الأنبياء فيها سعادةُ الدنيا والآخرة.
فإن قال قائل: الكسبُ ليس بسُنَّةِ نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لم يكن منسوبًا إلى الكسب؟
قلنا: بل هو سُنَّةٌ؛ لأن تحريضَ الناس على الكسب صريحُ رضاه بالكسب، وكلُّ فعلٍ رَضيَ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فهو سُنَّةٌ.
وأما قوله: لم يكن رسولُ الله منسوبًا إلى الكسب، فهذا عدمٌ، والعدمُ ليس بسُنَّةٍ؛ يعني: عدمُ اكتسابه لا يدل على أن عدمَ الكسبِ سُنَّةٌ.
ألا ترى أن النبيَّ - صلي الله عليه وسلم - لم يغسل ميتًا، ومع ذلك غسلُ الميت فرضٌ على الكفاية؟!
ولم يؤذِّن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك الأذانُ سُنَّةٌ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمرَ به.