كما يتأذى الإنسان من الضرب وغيره، فيصيح ويرفع صوته بالبكاء، وليس معنى المسِّ هنا مسَّ البشرة بالضرب، ومسَّ اليد وغير ذلك؛ لأن الشيطان لا يمسُّ بشرة الكبير بالضرب وغيره، بل ليس له سبيل إلى الإنسان سوى الوسوسة، فكذلك الصغير.
"استهل": إذا بكى الصبي، "صارخًا" نصبٌ على الحال؛ أي: في حال كونه صارخًا؛ أي: رافعًا صوته، وصرخ - بفتح العين في الماضي وضمِّها في الغابر - صراخًا: إذا رفع صوته.
قوله:"غير مريم وابنها": يعني يمسُّ الشيطان كلَّ مولودِ وقتَ ولادته من الأنبياء وغيرهم، إلا مريم وعيسى عليهما السلام، فإن الله تعالى حفظهما من مسِّ الشيطان؛ لقبول دعاء حَنَّةَ أمِّ مريم حيث قالت:{وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[آل عمران: ٣٦](١)، ولبيانِ كذب ما قالت اليهود في حق مريم من نسبتها إلى الزنا، لأن الله تعالى لمَّا حفظها من مسِّ الشيطان وقتَ الولادة - مع أنه لم يَخلص منه أحدٌ - فكيف لم يحفظها من الزنا؟
فإن قيل: ينبغي من هذا أن يكون عيسى أفضل من نبينا عليهما السلام - لأنه لم يمسَّه الشيطان حين ولد، وقد مسَّ نبيَّنا عليه السلام حين ولد - بمفهوم الحديث؛ لأنه لم يستثن من بني آدم غير مريم وابنها.
قلنا: تفرُّدُ عيسى بهذه الفضيلة لا يدل على كونه أفضل من نبينا عليه السلام؛ لأن لنبينا فضائلَ ومعجزاتٍ كثيرةً لم تكن لعيسى ولا لغيره من الأنبياء، فلا يلزم أن يكون في الفاضل جميعَ خصال المفضول، بل يجوز أن يكون في
(١) جاء على هامش "ق" ما نصه: "قوله: لقبول دعاء حنة أم مريم، فيه أن دعاء حنة لمريم كان بعد ولادتها، وتمكُّنُ الشيطان من مسِّها كان قبل الولادة، فبقي الإشكال على حاله".