للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ولما رآه الناس مبالغًا في العمل تعجبوا منه، وأجمعوا عليه، وأدنوا منه الجاه والمال، وقَبَّلوا يديه ورجليه، وربما يصير ذلك العابد أحمق مغرورًا بعمله متكبرًا، ويعتقد أنه خير من غيره، ولا شك أن هذا الاعتقاد مذموم عند الشرع، فلهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في آخر هذا الحديث: "وإن أشير [إليه] بالأصابع فلا تَعُدُّوه"؛ يعني: وإن صار معروفًا مشارًا إليه بالعبادة، فلا تَعُدُّوه شيئًا؛ أي: فلا تعتقدوه صالحًا.

فإن قيل: قد نُقل عن جماعة من المشايخ أنهم قد اجتهدوا في العبادة، وأتعبوا أنفسهم إتعابًا شديدًا، فبدليل هذا الحديث ينبغي أن نقول: هم مسيئون في اجتهادهم في العبادة؟

قلنا: هذا الحديث عام، والمراد به الخاص يعني: قد يكون بعض الناس يبالغ في العبادة ليشتهرَ بين الناس، فمن كانت نيتُهُ الاشتهار فهو، الذي يُرَاد في هذا الحديث، ومن كان نيته الإخلاص في العبادة لا الاشتهار بين الناس لم يكن عليه بأس باجتهاده في العبادة.

والمشايخ الذين اجتهدوا في العبادة كانوا قد فَرُّوا من الناس، وسكنوا البوادي والجبال، والمواضع الخالية؛ حذرًا من الرياء واجتماع الناس عليهم، فلما كملوا في الطريقة دخلوا البلاد، وسكنوا بين الناس لتربيتهم ودعوتهم إلى الله تعالى، فلما بلغوا هذا الحدَّ قللوا العبادة والرياضات، وكَثَّروا مجالسةَ الناس ومواعظتهم وتربيتهم، ولم يضرهم قَبول الناس؛ لأن قلوبَهم مطمئنةٌ بالحق مزينةٌ بنور التَّجلي، فصارَتْ قلوبُهُم كالبحر، فكما أن القذرات لا تكدِّر البحر، فكذلك اجتماع المال وتوجه الجاه والقبول إليهم لا يكدِّر صفاء خواطرهم (١).

* * *


(١) في "ش" و"ق": "قلوبهم".

<<  <  ج: ص:  >  >>