للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحدُهم ما في تركِه من المضرة العاجلة، إما في نفسه وإما من جهة الخلق، فإنهم لا يتركون حقوقَهم، فهو يَفعلُها لرغبتهم ورَهْبتهم وللعادةِ التي هو عليها، وقد يفعلها محبةً للحقّ ورغبةً فيه من غيرِ أن يرجوَ أحدًا ولا يخافه، ومن غير أن يفعلها تعبُّدًا. وهذا حسنٌ لا بأس به، فإن مَن فعلَ الحسناتِ لأنها حسناتٌ نفعه ذلك، كما ينفعُ الحيوان أكلُه وشربُه، لكن لا يكون عبادةً لله. بخلاف من لا يفعله إلّا خوفًا من الخلق، فإن هذا مذموم.

ولهذا لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجلُ يقاتِلُ شجاعةً ويُقاتِلُ حَمِيّةً ويُقاتِل ليُرِي مكانَه، فأيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العُليا فهو في سبيل الله" (١). وهذا يكون في القتال باليد واللسان وإنفاقِ المال، وذلك كلُّه يكون جهادًا، لكن ما ليس في سبيل الله: منه ما لا يُعاقَب عليه المرءُ، ومنه ما يُعاقَبُ عليه.

والمقصود هنا أن هذه الأمور العادية المباحة تُفعَل لمحبة وهوًى وإرادةٍ، فإن كان ذلك يُستعان بها على عبادةِ الله كانت طاعةً وعبادةً، وإن كان ذلك لمجرد العادةِ والطبع على الوجهِ الحقِّ لم يكن ذلك معصيةً ولا إثمًا، وإن لم يَقصِدْ بها صاحبُها العبادةَ لله. فقولنا: "كل من لم يعبد الله ويُرِدْه (٢) بعمله فلا بدَّ أن يعبد غيرَه ويعبدَ هواه"، ليس هو في هذه الأمور التي تُراد لمصلحة الجسد، وهي مشتركة بين المؤمن والكافر، وكلاهما يستعين بها على دينه، وقد يقال لها الأمور الدنيوية ومصالح الدنيا، وهي


(١) أخرجه البخاري (٧٤٥٨) ومسلم (١٩٠٤) عن أبي موسى الأشعري.
(٢) في الأصل: "يريده".

<<  <  ج: ص:  >  >>