[الهدوء عند الحوار]
ومن الآداب المهمة في الحوار: الهدوء، وكثيراً ما تتحرك الطبائع الكامنة في النفوس، ويحدث غليان وغضب وانفعال وعصبية، وتندفع الكلمات، وتتسابق الأطراف كالسيل الجارف بالتهكم والسخرية وتراشق التهم ونحو ذلك، وهذا من أخطر آفات الحوار؛ لأنه لم يعد هناك حوار مثمر، وهذا مفسد للعلاقات، ولذلك بعض الناس تحس أنك لو ما دخلت معه في حوار لكان أحسن، كنت صاحباً له قبل الحوار، وبعد الحوار صار بينكما قطيعة، ولذلك تتنافر القلوب من آثار الحوار المذموم.
إن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يجبر
والصراخ والشتائم كل إنسان قد يقدر عليه، لا فرق في ذلك بين كبير وصغير وجاهل وعالم، وكما قال قائل:
صغار الأسد أكثرها زئيراً وأصرمها اللواتي لا تزير
أي: لا تزأر، والذي يميز الرجل الرباني الصادق في حواره هدوء نفسه، وعفة لسانه: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:٤٣ - ٤٤] والنبي صلى الله عليه وسلم كما قال أنس: (لم يكن سباباً ولا فحاشاً ولا لعاناً)، وشيخ الإسلام رحمه الله خاض غمار حوارات كثيرة، ومناظرات مع أهل البدعة، وكان من الخلاصات التي خرج بها يقول: الرد بمجرد الشتم والتهويل لا يعجز عنه أحد، والإنسان لو أنه يناظر المشركين وأهل الكتاب لكان عليه أن يكبر من الحجة ما يبين به الحق الذي معه والباطل الذي معهم، فقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:٤٦].
والإنسان إذا جلس في مجالس أهل العلم ينبغي أن يتأدب، ولذلك الحوار العلمي ينبغي أن يأخذ أدباً أعلى بكثير من الحوار في المسائل الدنيوية، أو في الأسعار، أو في السلع، أو في مساومات أو في نحو ذلك، وبعض الإخوان قد يظن أن الحوار مع أهل البدع يقتضي أن ترفع الصوت، وتظهر الغضب، وتقطب الجبين، وتحمر العينان، وتتسارع الأنفاس، وهذا غير صحيح.
ولكي يتقبل الشخص الآخر فلابد أن تظهر الهدوء في النقاش؛ لأن القصد الآن ليس ألا تتيح له فرصة في الكلام إذا كان الحديث بينك وبينه، وإنما المقصود أن يصل الرجل إلى الحق ويقتنع به، ولذلك عامة الناس لا يحبون التشنج والانفعالات في النقاشات، ويقولون: هذا الشيخ الذي خرج من البرنامج الفلاني ما عنده إلا العصبية والانفعال، وتلك المرأة غلبته وتفوقت عليه، مع أنه خرج لينصر الحق بزعمه، وهي تمثل أهل الباطل، فالناس ينفرون من التشنج والانفعال، نعم بعض الأحيان يلزم إظهار شيء من الشدة، لكن لا إلى أن يتحول الحوار إلى صراخ، والغضب لا يبقي سداداً للفكر، ويتعكر المنطق بسببه، وتتقطع مادة الحجة، وقال ابن القيم رحمه الله: الغضب نوعٌ من الغلق تستغلق به على الإنسان الأمور، وكيف يأتي المرء بحجة أو ينقض حجة للخصم إذا كان في حال الغضب، الغضب عدو العقل وهو للعقل كالذئب للشاة قلما يتمكن منه إلا اغتال العقل، هكذا صوره ابن القيم رحمه في إغاثة اللهفان، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: (أسألك كلمة الحق في الرضا والغضب) وكلما ازداد انفعال المتحاورين ازدادت الشقة بينهما وابتعد الواحد منهما عن الآخر (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب).
روي أن المزني رحمه الله ناظره إنسان كثير الصياح والشغب فقال المزني: أخبرنا الشافعي أن أبا حنيفة ناظر رجلاً فكثر صياح أبي حنيفة فمر به رجل آخر وقال: أخطأت يا أبا حنيفة، فقال أبو حنيفة: ما هذه المسألة؟ -أنت أيها المار ما الذي نتحدث عنه؟ - فقال الرجل: لا أدري، فقال أبو حنيفة: وكيف عرفت أني أخطأت؟ فقال الرجل: لأنك إذا أخطأت صحت، وإذا أصبت رفقتَ، فعلمت أنك أخطأت حيث رأيتك تصيح.
إذاً فمسألة الصياح هذه تفسد الحوار.
إذا ما كنت ذا فضلٍ وعلمٍ بما اختلف الأوائل والأواخر
فناظر من تناظر في سكونٍ حليماً لا تلح ولا تكابر
يفيدك ما استفاد بلا امتنانٍ من النكت اللطيفة والنوادر
وإياك اللدود ومن يرائي بأني قد غلبت ومن يفاخر
فإن الشر في جنبات هذا يمني بالتقاطع والتدابر
وروي أن رجلاً من بني هاشم اسمه عبد الصمد رفع صوته في النقاش عند أحد الخلفاء، فقال له: لا ترفع صوتك يا عبد الصمد إن الصواب في الأسدّ لا في الأشدّ، الأسد: القول السديد، الأشد: وليس بالصوت الشديد.
وإذا أفحش الخصم في جوابه فينبغي عدم الحدة؛ لأن الصياح لا يقابل بالصياح والاستخفاف؛ فهذا من أخلاق السفهاء، ومن الطرائف أن أحد الشعراء سمع اثنين ينتسبان إلى الفقه ينبز أحدهما بالبغل والآخر بالجاموس.
فقال:
البغل والجاموس في جدليهما قد أصبحا عظةً لكل مناظر
برزا عشية ليلة فتباحثا هذا بقرنيه وذا بالحافر
ما أتقنا غير الصياح كأنما لقنا جدال المرتضى ابن عساكر
فالمناقشة ليست بالقرون والحوافر، وإنما بالكلام المتزن الهادئ، والإنسان إذا كان عصبياً فلا ينصح بخوض حوارات، ومن كان حاد المزاج فقد يفسد أكثر مما يصلح، وإذا أردنا أن نرشح أشخاصاً للحوار، فلنرشح أشخاصاً عُرفوا بهدوء الطبع؛ لأن المحاور خصوصاً في هذا الزمان ينتدب على أنه يمثل فكرة من الأفكار، أو منهجاً من المناهج، فإذا كان إنساناً حاداً عصبياً يمكن أن يؤدي إلى إقناع الناس بالباطل، أو ينفروا من الحق، فينبغي أن يعتنى بالحوارات ولا يدخل فيها إلا من عنده صفات علمية وأخلاقية تؤهله للدخول.