وكذلك من آداب الكلام: تقديم الأكبر، فإن الناس قد يجتمعون في مجلس أو يأتي وفد يريد الكلام، فالذي يتكلم هو الأكبر إذا كان عارفاً بأصول الكلام فقيهاً، فمن الأدب أن يبدأ الأكبر، وتوقير الكبير من أصول الأدب في الشريعة؛ ولذلك قال الإمام البخاري -رحمه الله- في كتاب الأدب: باب إكرام الكبير، ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال.
وهذا قد جاء النص عليه والأمر به والإنكار على من خالفه في الحديث الصحيح، وهو حديث عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود (أنهما أتيا خيبر فتفرقا في النخل، فقتل عبد الله بن سهل، فجاء عبد الرحمن بن سهل -أخو القتيل- وحويصة ومحيصة ابنا مسعود، إلى النبي عليه الصلاة والسلام فتكلموا في أمر صاحبهم القتيل، فبدأ عبد الرحمن وكان أصغر القوم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كبر الكبرى، كبر الكبرى.
قال يحيى: أي: ليَلِ الكلام الأكبر) فالأكبر هو الذي يتولى الكلام ويبدأ به، فتكلموا في أمر صاحبهم، وفي رواية:(كبر كبر) قال: (فذهب عبد الرحمن يتكلم وكان هو أصغر القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كبر كبر، وهو أحدث القوم فسكت فتكلما).
وكذلك مما يتعلق بهذه النقطة -أيضاً- ترك الكلام للأفقه، فإنه قد تحدث مناسبة تدعو للكلام فيود أحد الناس أن يتكلم، كأن تحدث حادثة تحتاج إلى تعليق، أو تحصل حادثة في المجلس أو في المسجد فيترك التعليق عليها للأفقه؛ لأن كل إنسان يريد أن يعلق، مثلاً: حصلت حادثة ولا بد من تعليق، فيترك للأفقه، مع أن كل الموجودين تدعو حاجتهم -أحياناً- إلى الكلام؛ لأن الأفقه والأعلم عنده مما نور الله به بصيرته ما يستطيع أن يقنع به الناس، ويكون تعليقه أولى من تعليق غيره، وكلامه أحسن من كلام غيره، وإليك الدليل: لما مات النبي عليه الصلاة والسلام اختلف الصحابة فيمن يتولى الأمر من بعده، فقال الأنصار: نحن أولى، نحن كتيبة الإسلام، ونحن عماد الجيش الذين نصرنا الله ورسوله، فيكون الأمير والخليفة منا، فأوشكوا أن يبايعوا سعد بن عبادة، فهذه حادثة كبيرة؛ ولذلك قال عمر -رضي الله عنه- لما تكلم الأنصار وقام خطيبهم فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال:[أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط -أي: أنتم الأقلية ونحن الأنصار الأكثرية- وقد دفت دافة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يختصوا بالأمر من دوننا -وهذا معناه أن الأنصار يريدون أن تكون الخلافة فيهم- قال عمر: فلما سكت خطيب الأنصار أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني -أي: كنت قد أعددت مقالة في نفسي رصينة في غاية البلاغة والأهمية- أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر -أي: أريد أن ابتدئ قبل أبي بكر وأتكلم بها- وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك -تمهل- قال عمر: فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته -على البديهة- مثلها أو أفضل منها حتى سكت.
فكان من كلام أبي بكر: ما ذكرته فيكم من خير فأنتم له أهل -انظر إلى الحكمة في كلام أبي بكر! - ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها -أي: ما كرهت من كلام أبي بكر غير هذه الكلمة -ووالله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أتأمر على قوم فيهم أبو بكر] فلما ترك الكلام لـ أبي بكر أجاد أحسن من عمر، مع أن عمر يريد أن يتكلم والوضع يدعو للكلام.