[زيارة الضعفاء والمساكين]
وبعض الناس قد يظن أن الزيارة لأهل العلم والفضل، والأصحاب والأصدقاء، فينسون زيارة الضعفاء والمساكين، وزيارة الضعفاء والمساكين عبادة؛ لأن فيها أجراً عظيماً، يجب ألاَّ ينسى الضعفاء والمساكين في المجتمع، والناس قد يزورون الوجهاء والكبراء لما عندهم من الدنيا والجاه والغنى ولا يزورون المساكين والضعفاء، لماذا لا يُزار المساكين والضعفاء؟ روى الإمام مسلم -رحمه الله- في صحيحه عن أنس قال -وهذا حديثٌ مؤثرٌ فعلاً، يبين الاهتمام بهذه الناحية، مؤثر لأنه صدر من أكبر اثنين في الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم-: [قال أبو بكر لـ عمر -رضي الله عنهما- أبو بكر خليفة يقول للنائب عمر وزيره وصاحبه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم-: انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها] الذي يتكلم هو أبو بكر قائد الأمة والخليفة والنائب الذي بعده عمر، يقول: [انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها] زيارة العجائز والكبار في السن، هؤلاء ليسوا على الجانب بحيث أنهم لا يراعون، بل لهم حق ويعطون اهتماماً.
الغرب الذين تقدموا بالصناعات ماذا فعلوا؟ وضعوا الملاجئ للعجزة، لا يزارون حتى من أقرب الناس إليهم، وهؤلاء أهل الإسلام وأصحاب الإيمان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وزيراه وصاحباه، يزوران أم أيمن العجوز؛ كانت حاضنة النبي عليه الصلاة والسلام، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يراعيها، حتى إنها المرأة الوحيدة التي تكلمت على النبي صلى الله عليه وسلم لما زارها يوماً وكان صائماً فقدمت له لبناً، فأبى فتكلمت عليه ولامته، ولم يكن أحد يتجرأ أن يلوم النبي عليه الصلاة والسلام؛ لكن أم أيمن حاضنته في صغره، ولها نوعٌ من الحق.
فزيارة العجائز جائزة وليست زيارة مشبوهة، ما ذهبا لزيارة امرأة شابة أجنبية، إنما زاروا عجوزاً كبيرة في السن، وليس في ذلك فتنة.
ولا يظنن ظانٌ أن العجائز وكبار السن ليس لهم دورٌ في المجتمع، سبحان الله والله أكبر! على ذلك المجتمع الأول الذي ما كان فيه فرد إلا وله دور، حتى العجائز، فقد جاء في أثر رواه الإمام البخاري رحمه الله، عن سهل بن سعد قال: [إنا كنا نفرح بيوم الجمعة، كانت لنا عجوزٌ تأخذ من أصول سلقٍ -والسلق نبات معروف- لنا كنا نغرسه في أربعائنا -والأربعاء: هو الجدول، أو النهر الصغير، أو الساقية- فتجعله في قدرٍ لها، فتجعل فيه حباتٍ من شعير لا أعلم إلا أنه قال: ليس فيها شحبٌ، ولا ودكٌ -لا لحم ولا دهن ولا شيء، مجرد سلق عليه شيء من الشعير- فإذا صلينا الجمعة زرناها -أي: زرنا العجوز بعد صلاة الجمعة- فقربته إلينا، فكنا نفرح بيوم الجمعة من أجل ذلك].
وفي رواية للبخاري أيضاً: [كانت فينا امرأةٌ تجعل على أربعاء في مزرعةٍ لها سلقاً، فكانت إذا كان يوم الجمعة تنزع أصول السلق فتجعله في قدرٍ ثم تجعل عليه قبضةً من شعير تطحنها فتكون أصول السلق عرقة] أصول السلق مثل عرق اللحم بالنسبة للشعير والأكل، هذا بيان ما كانوا عليه من التواضع والزهد، وقلة ذات اليد، والفقر، وضيق العيش، والصبر، رضوان الله عليهم.
[وكنا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلم عليها، فتقرب ذلك الطعام إلينا فنلعقه، وكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك] سبحان الله! هذه عجوز كبيرة في السن، لكنها أبت إلا أن يكون لها دور في المجتمع، تقدم الطعام للخارجين من صلاة الجمعة، على بساطة الطعام وعلى قلته، ولذلك قالوا في فوائد هذا الأثر: عدم احتقار الأجر في الأشياء ولو كانت قليلة.
هذا بالنسبة لأنواع الزائرين والمزورين، فالمقصود أن الزيارة ينبغي أن تكون لله وفي الله.
وهناك ملاحظة: وهي أن بعض الناس قد يزورون أشخاصاً من الباب، أو في الطريق، فهل تعتبر هذه زيارة؟ نقول: أما الزيارة من الباب لأجل شيء، كأن يكون مستعجلاً، فهذا شيءٌ طيب، تأتيه إلى باب داره أحسن من أنك لا تأتيه أصلاً.
لكن هب أن وقتك ضيق لا تستطيع أن تزوره إلا من باب البيت فماذا تفعل؟! تزوره من باب البيت، وتمر عليه مروراً، تقول: أنا -يا أخي- لا أستطيع أن أدخل أزورك، ولكن من هنا فاعذرني.
ولو أنك تستوقفه في الطريق فتتكلم معه هنيهةً فهذا -أيضاً- طيب، كما قال الشاعر ابن المعتز:
قف لنا في الطريق إن لم تزرنا وقفةً في الطريق نصف الزيارة
لكن بعض الناس قد يأتي إلى باب صاحبه، ويقول: أنا مستعجل ولا أريد أن أدخل، ويقفان عند الباب طويلاً، وتتواصل الأحاديث ويقول له صاحب البيت: ادخل: فيقول: لا أستطيع أنا مستعجل، وتتواصل الأحاديث الطويلة على الباب، فلو دخل لكان أحسن، لكن بعض الناس لا يحسنون تقدير الأشياء، فلو دخل وزاره ربما كان أسرع من وقفة عند الباب، لأن بعض الناس لا يحلو لهم إلا الكلام عند الباب، ولا تهطل عليهم الأفكار إلا عند الأبواب.
مسألة: إن الانشغالات الموجودة في هذا العصر جعلت مسألة الزيارة في الله شيئاً نادراً مع الأسف! وبعض الانشغالات قد يكون الناس محقين فيها وقد تكون بعض الانشغالات أهم من بعض الزيارات، لكن قطع الزيارات نهائياً هذا أمرٌ لا يقبل، قد أفهم -أنا مثلاً- أنك في حي من الأحياء ولك نشاطٌ في الدعوة إلى الله وعندك كثيرٌ من الانشغالات والمهمات، فقد أُقلل من الزيارة، أو نتزاور على البعد، وما بيني وبينك من الروابط والعلاقات القلبية لا يمكن قطعها أو زوالها، لكن أن تنقطع الزيارات نهائياً فتمر السنة والسنتين ولم أزره فهذا أمرٌ معيب.
لكن حصول الأعذار ينبغي أن يكون فيها تبادل تقدير من الأطراف المختلفة، وقلة الزيارة لا تعني الجفوة بالضرورة، فهناك أناس من أهل الخير والإحسان والصلاح والعلم زياراتهم لبعضهم قليلة، يسمعون عن بعضهم سماعاً ربما، لكن تجد أن بينهم علاقات قلبية قوية جداً ولو كانت زياراتهم قليلة أو معدومة لبعض الظروف.
عن أبي الحسن بن قريش قال: حضرت إبراهيم الحربي -وهو من أكابر علماء الحديث- وجاءه يوسف القاضي ومعه ابنه أبو عمر، فقال له: يا أبا إسحاق لو جئناك على مقدار حقك لكانت أوقاتنا كلها عندك، فقال أبو إسحاق رحمه الله: "ليس كل غيبةٍ جفوة، ولا كل لقاءٍ مودة، وإنما هو تقارب القلوب".
فقد يلتقي بعض الدعاة إلى الله مع بعضهم من بُعدٍ في الطريق ويكون بينهم السلام والابتسامة وهذه تنبئك عن أمرٍ عظيم، فالانشغالات إذا كانت في الأشياء الشرعية فقد يعذر فيها الإنسان في قلة الزيارة، لكن المشكلة أن الناس الآن أعدمتهم الأمور الدنيوية وأعمتهم عن أن يزوروا إخوانهم في الله، وصارت الزيارات لأجل المصالح، لا يزورهم إلا لمصلحة، فجأةً تفاجأ بشخص، لم يزرك أبداً، والآن يطرق عليك الباب، فقال: والله أحببنا أن نزورك وعندنا قضية نريد منك أن تهتم بها، ولنا خدمة نريد أن تقدمها لنا.
إذاً الزيارة أصبحت لأجل الخدمة، فزيارات الناس -الآن- تقطع أمرهم بينهم، ما تجمعهم إلا المصالح، لا يجمعهم الحب في الله ولا التزاور في الله، ولذلك فإن الخطوات غير محسوبة ولا حسنات لهم؛ لأن الزيارات والعلاقات مادية.