[بعبض الآثار والأحاديث الواردة في البركة]
لنأخذ بعض الآثار والأحاديث في ذلك: فهذا أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وقد سمي بذلك؛ لأنه ما من نبي جاء بعده إلا كان من نسله, كما دلت عليه الآيات الواردة: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} [الأنعام:٨٤] ثم ذكر بعد ذلك أنبياء كثيرين، فكل نبي أتى بعد إبراهيم فهو من ذرية إبراهيم، فلذلك سمي إبراهيم بأبي الأنبياء, وإبراهيم عليه السلام لما ترك هاجر وابنها في مكة كبر إسماعيل وتزوج وجاء إبراهيم بعد ذلك ليتفقده, فجاء إلى الزوجة الأولى وحصل ما حصل من الكلام الذي لم يعجبه، وبعد ذلك جاء إلى الزوجة الثانية ولم يجد ولده إسماعيل، فسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالتهذه الزوجة المبرورة غير الكفورة: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله, فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم, قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء, قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء؛ فلذلك يقول أهل العلم: إن اللحم والماء تناولهما والإكثار منهما يضر إلا في مكة , فإن تناول اللحم والماء لا يضر بسبب دعوة إبراهيم عليه السلام، فهو دعا لهما فقال: اللهم بارك لهما في اللحم والماء.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بالبركة لمن يزورهم، فلما أُتي بشراب شربه ثم ناوله الذي عن يمينه، قال: فقام أبي وأخذ بلجام دابته بعدما طعم عندهم وأراد أن ينصرف وقال: (ادع الله لنا, فقال: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم).
كذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما طلب من الملكين أن يدخلاه بيته الذي في الجنة دعا لهما بالبركة, فإذا أردت أي طلب من شخص ما تقول: أعطني هذا بارك الله فيك, وهذه الصيغة لها دليل، فقد جاء في صحيح البخاري في كتاب التعبير لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم مع الملكين: (قالا لي: هذه جنة عدن -طبعاً في الرؤيا- وهذاك منزلك, قال: فسما بصري صعداً فإذا قصر مثل الربابة البيضاء, قال: فقلت لهما: بارك الله فيكما ذراني فأدخله, قالا: أما الآن فلا) حتى يكون دخوله صلى الله عليه وسلم قصره في الجنة يوم القيامة.
فالشاهد أنه لما طلب شيئاً قال: (بارك الله فيكما ذراني) الحديث.
فلو طلبت شيئاً فقلت مثلاً: بارك الله فيك افعل لي كذا ونحوه فله شاهد.
والنبي صلى الله عليه وسلم في قصة أبي طلحة لما مات ولده فأخفت امرأته الخبر وغسلت الولد وكفنته ووضعته في ناحية البيت وتزينت لزوجها حتى وقع عليها ولما علم غضب فأتى النبي صلى الله عليه وسلم, فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (أعرستم الليلة؟ -أي: أتيتها- قال: نعم.
قال: بارك الله لكما) فولدت غلاماً مات شهيداً، واسمه عبد الله وهو أخو أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه.
وكذلك الملك لما جاء إلى الثلاثة الأقرع والأبرص والأعمى من بني إسرائيل ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، وأعطى هذا قطيعاً من الإبل وهذا قطيعاً من البقر، كان يقول للشخص بعدما يعطيه: (بارك الله لك فيها, ثم أتى الأقرع وقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس, قال: فمسحه فذهب عنه وأعطي شعراً حسناً، فقال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرة حاملاً وقال: بارك الله لك فيها) ولذلك توالدت وتكاثرت حتى صارت وادياً عظيماً.
فإذا جاء الإنسان نعمة أو مال يدعى له بالبركة.
كذلك من معنى التبريك المتعلق بالتهنئة ما جاء في حديث البخاري رحمه الله تعالى في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بـ زينب بنت جحش، فإنه لما تزوج بها دعا الناس إلى الخبز واللحم فأكلوا ولم يبق أحد يدعى إلا دعي, حتى قال أنس: (فقلت: يا رسول الله! ما أجد أحداً أدعوه, فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك؟ بارك الله لك, فطرق حجر نسائه كلهن يقول لهن كما قال لـ عائشة ويقلن له كما قالت عائشة).
إذاً من تهنئة المتزوج أن يدعى له بالبركة بعد الدخول أيضاً؛ لأن عائشة قالت له بعد الدخول: (كيف وجدت أهلك؟ بارك الله لك).
وأيضاً الإنسان إذا عرض عليه شيء من المال وهو لا يريد أخذه فإنه يدعو بالبركة حتى لو أخذه, لكن الشاهد على الأول حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه, لما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري , فقال سعد الأنصاري لـ عبد الرحمن المهاجري: [أقاسمك مالي نصفين وأزوجك، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق] فهو تاجر يعرف التجارة, كأنه يقول: لا أريد أن آخذ منك شيئاً، دلوني على السوق وأنا أعرف طريقي, وفعلاً تاجر حتى صار له مال كثير.