[الإقلال من زيارة الإخوان خشية الإملال]
أما بالنسبة لموضوع: الإقلال من الزيارة خشية الإملال، فإنه قد ورد في ذلك حديث: (زر غباً تزدد حباً) وهذا الحديث قد أعله بعض العلماء، قال ابن حجر رحمه الله: طرقه لا تخلو من مقال، وقد اختلف في وصله وإرساله، وبعض العلماء صححه بشواهده وطرقه.
وقد جاء في الصحيحين قول عائشة لـ عبيد بن عمير: [ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: ما قال الأول: زر غباً تزدد حباً] عبيد بن عمير ذكر هذا الكلام على أنه من كلام الأولين، أي: من الأمثال السائرة، وهو معروف عندهم في السابق، زر غباً تزدد حباً.
قال الشاعر:
إذا شئت أن تقلى فزر متواتراً وإن شئت أن تزدد حباً فزر غباً
أن تقلى: أي: تهجر وتكره فزر متواتراً: أي: زيارة خلف زيارة خلف زيارة.
وقال آخر:
إني رأيتك لي محباً وإلي حين أغيب صباً
فهجرت لا لملالةٍ حدثت ولا استحدثت ذنباً
إلا لقول نبينا زوروا على الأيام غباً
ولقوله من زار غباً منكم يزداد حباً
وقال الشاعر أيضاً:
عليك بإقلال الزيارة إنها تكون إذا دامت إلى الهجر مسلكه
إذا دامت وصارت كثيرة جداً فإنها مملة وتفضي إلى الهجر
فإني رأيت القطر يسأم دائماً ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكَ
لو نزل المطر دائماً فإنه يُسأم.
وقال بعضهم:
أقلل زيارتك الصديق يراك كالثوب استجده
إن الصديق يمله ألاَّ يزال يراك عنده
هذا بالنسبة لتباعد الزيارات وألا تكون متواصلة، لكن ورد في صحيح الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الأدب: (باب: هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرةً وعشية؟) واستشهد البخاري رحمه الله على ذلك بحديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (لم أعقل أبواي إلا وهما يدينان الدين) أي: من صغري ما عرفت أبواي إلا وهما على الإسلام: أبو بكر وأم رومان (ولم يمر عليهما يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرةً وعشية) كل يوم في الصباح والعشي (فبينما نحن جلوسٌ في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائلٌ: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، قال أبو بكر: ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر مهم، قال: إني قد أذن لي بالخروج) فأخبره النبي عليه الصلاة والسلام بالهجرة من مكة إلى المدينة.
فماذا يدل عليه هذا الحديث؟ الرسول عليه الصلاة والسلام كان يأتي إلى أبي بكر كل يوم مرتين.
نعم، بعض العلماء قال: لماذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي يزور أبا بكر ولم يكن أبو بكر هو الذي يزور النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن في هذا مشقة على النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون هو الذي يزور باستمرار؟ وأجابوا عن هذا الاستشكال: قال ابن حجر: "يحتمل أن يقال: كان سبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جاء إلى بيت أبي بكر يأمن من أذى المشركين، بخلاف ما لو جاء أبو بكر إليه".
أو يقال: إن بيت أبي بكر على الطريق إلى المسجد الحرام، فكان النبي عليه الصلاة والسلام كلما ذهب إلى المسجد الحرام مر على دار أبي بكر وهو ذاهب ثم يمر وهو راجع".
هل هناك تعارض بين هذا الفعل من النبي عليه الصلاة والسلام وحديث: (زر غباً تزدد حباً) على فرض صحته؟ قال ابن حجر رحمه الله في حديث: (زر غباً): "يحمل على من ليست له خصوصية ومودة ثابتة، فلا تنقص كثرة زيارته من منزلته" فالناس يتفاوتون، فبعض الناس لو زرتهم يومياً ما أثقلت عليهم ولكان أمرك طبيعياً جداً، وهناك أناس لو زرتهم أسبوعياً لأثقلت عليهم، فالشخص إذا كان بينك وبينه خصوصيات، وأعمال مشتركة، وهذا يحدث كثيراً فهذا لا حرج عليك أن تقابله باستمرار.
كذلك أحيانا ًيكون هناك نوع من الصلة والقرابة أو الأخوة الكبيرة، بحيث يكون هناك تقارب في المساكن، وسهولة في الوصول، وعدم إزعاج أو حصول تكلف، فهذا لو زرته يومياً ما اعتبر عيباً ولا خللاً، وفعل النبي عليه الصلاة والسلام مع أبي بكر يدل على ذلك، حيث أن أبا بكر كان وزير النبي عليه الصلاة والسلام، وكان بينهما علاقةٌ كبيرةٌ جداً: في أمور الدعوة، وفي الأمور الداخلية للإسلام، وقضية ما يحدث في مكة من الفتن وأشياء كثيرة جداً، فكان النبي عليه الصلاة والسلام بينه وبين أبي بكر مواضيع كثيرة جداً، فلا شك أن الوضع يحتاج إلى زيارة متواصلة ويومية، بل ربما مرتين في اليوم؛ لمتابعة أمور الدعوة، وتبليغ النبي عليه الصلاة والسلام أبا بكر بما استجد من الوحي، فـ أبو بكر سابق الأمة بعد النبي عليه الصلاة والسلام، والأخوة بينهما كبيرة جداً، حتى همَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذه خليلاً فقال: (ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، فلذلك ليس بمستغرب أن يمر على أبي بكر في اليوم مرتين.
فالشاهد أن القضية تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص.
قال ابن بطال رحمه الله: "الصديق الملاطف لا تزيده كثرة الزيارة إلا محبة بخلاف غيره".
بعض الناس زيارتهم مكروهة وفيها ثقل دم، وبعض الناس زيارتهم محبوبة، هذا الشيء يلاحظه الزائر من المزور، إذا رآه مستريحاً ومسروراً زاره، وإذا كانت الزيارة مثمرة أقبل عليها.