[فضل المصافحة ومشروعية معانقة الأولاد وتقبيلهم]
جاء كذلك في الأحاديث أيضاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء) وهذا الحديث قد رواه الإمام مالك رحمه الله في الموطأ، لكن إسناده معضل، فقد سقط من إسناده رجلان، وقد جاء الحديث من وجوه، حتى قال ابن عبد البر: هذا يتصل من وجوه شتى حسان، وقال ابن المبارك: حديث مالك جيد، فعند ابن عبد البر -رحمه الله- أن هذا الحديث قد جاء موصولاً من طرق شتى، فالفائدة منه هي قوله: (تصافحوا يذهب الغل) فالمصافحة تذهب الحقد والعداوة التي تكون فيها بعض النفوس ممتلئة على بعض.
ولذلك فالعناية بها لها فوائد، فقد تبين لنا أن من فوائد المصافحة أنها من أسباب مغفرة الذنوب والمحبة، وإذهاب الغل والحقد، وقد جاء كذلك في موضوع المعانقة والتقبيل عدة أحاديث أخرى، فقد روى البخاري -رحمه الله- في صحيحه في كتاب الاستئذان، باب المصافحة، هذا أيضاً يضاف إلى المصافحة حديث ابن مسعود في التشهد، عندما علمه النبي صلى الله عليه وسلم التشهد، قال: (وكفي بين كفيه).
وقد جاء -أيضاً- في موضوع المعانقة، ما جاء في كتاب المناقب، في صحيح البخاري، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما، قال نافع بن جبير: عن أبي هريرة: (عانق النبي صلى الله عليه وسلم الحسن) وقد رواه هنا معلقاً، ورواه أيضاً موصولاً كما سيأتي، وهذا الحديث الموصول هو ما رواه في كتاب البيوع، عن أبي هريرة الدوسي رضي الله عنه قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة النهار لا يكلمني ولا أكلمه، حتى أتى سوق بني قينقاع، فجلس بفناء بيت فاطمة، فقال: أثم لكع، أثم لكع، فحبسته قليلاً، فظننت أنها تلبسه سخاباً -وهو نوع من الملابس، تجهز الولد للقاء جده وهو النبي صلى الله عليه وسلم، أو تغسله حتى يخرج إليه طيب الرائحة- فجاء يشتد حتى عانقه وقبله) وهذا فيما يتعلق بموضوعنا في معانقة الصغار وتقبيلهم، ومعانقة الجد لحفيده وتقبيله.
وموضوع الصغار يختلف عن موضوع الكبار، مثل الولد والحفيد يعانقه ويقبله ويشمه، كما جاء في الحديث الصحيح، لكن هذا يختلف عما يفعل مع الكبار، فالصغار من السنة أن يشمه ويقبله ويعانقه إذا لقيه كابنه وحفيده عانقه وقبله وقال: (اللهم أحببه وأحب من يحبه).
وقد جاء هذا الحديث أيضاً في صحيح مسلم رحمه الله عن أبي هريرة قال: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار لا يكلمني ولا أكلمه، حتى جاء سوق بني قينقاع، ثم انصرف حتى أتى خباء فاطمة، فقال: أثم لكع، أثم لكع -أي: حسناً، وفي هذه الرواية تعيين الصبي الذي خرج إليه أنه الحسن بن علي رضي الله عنه -فظننا أنه إنما تحبسه أمه، لأن تغسله وتلبسه سخاباً- فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أحبه فأحبه وأحبب من يحبه) هذا بالنسبة لما فعله عليه الصلاة والسلام بحفيده.
أما ما فعله عليه الصلاة والسلام مع ولده إبراهيم، فقد جاء في الحديث الصحيح في البخاري، عن أنس بن مالك قال: (دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القيني، وكان ظئراً لـ إبراهيم -فهذا الحداد رضي الله عنه كان عنده إبراهيم يرتضع، مكث عنده فترة من الزمن- فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه) الحديث.
إذاً: في هذا الحديث مشروعية شم الأولاد وتقبيلهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، وقد جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قبل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداًً، هذا رجل من الأعراب كان في الأعراب شيء من الجفاء، والخشونة والغلظة، استغرب قال: يا رسول الله! أنتم تقبلون الصبيان، وأنا عندي عشرة أولاد ما قبلت واحداً منهم؟ كأنها عندهم شيء مما يتنافى مع الرجولة، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مستنكراً هذا الكلام ومعاتباً، ثم قال: (من لا يرحم لا يرحم) وقال عليه الصلاة والسلام في عتابه: (أوأملك لك إذ نزع الله الرحمة من قبلك).
إذا نزع الله الرحمة من قلبك لا تقبل الصبيان فماذا أملك لك؟ فهذا يدل على مشروعية تقبيل الصبيان.
وعنون البخاري رحمه الله: (باب من ترك صبية غيره حتى تلعب به أو قبلها أو مازحهها)، هذه الصبية الصغيرة، وعموماً فإن الرحمة بالصغير تكون مقيدة بما لم يكن هناك فتنة.
ومما ورد من الأحاديث التي فيها التقبيل: تقبيل الأب لابنته، فقد روى البخاري رحمه الله في كتاب المناقب، أن البراء دخل مع أبي بكر على أهله، فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها حمى، فرأيت أباها قبل خدها، وقال: كيف أنت يا بنية؟ إذاً هذا من تقبيل الأب لابنته المريضة، ومن المعلوم أن عائشة رضي الله عنها أول ما قدمت المدينة كانت صغيرة، فأصابت عدداً من المهاجرين حمى المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا أن يذهب الله ما فيها من الحمى، فيجعلها بـ الجحفة، ولذلك قال: (وصححها لنا) أي: اجعل جوها وهواءها يكون فيه صحة لا يكون فيه مرض، فمن بركة المدينة أن جوها صحي أكثر من غيرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بذلك.