[التفصيل في مسألة الأكل مما يليه]
ونعود إلى موضوع الآداب لنأخذ أدباً أو جزئية أخرى فقط من الجزئيات فيما تبقى من الوقت.
وهي مسألة الأكل مما يليه: والأكل مما يليه قد جاء في الحديث: (كل مما يليك) وفي هذه المسألة عنون البخاري رحمه الله: باب الأكل مما يليه، وقال أنس -جاء بحديث معلق- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اذكروا اسم الله وليأكل كل رجلٍ مما يليه) لأن مسألة الأكل مما يليه واضحة وينبغي أن يجمع بين الأشياء، بين الأكل مما يليه وبين إلعاق الإناء، فإن قال: الإنسان كيف يكون ذلك؟ نقول: إنه يأكل مما يليه بحيث يظهر قاع الصحفة فيلعقها، يعني: الناس عندما يأكلون، بعضهم يأكل أفقياً ويتوسع، وبعضهم يأكل عمودياً تقريباً، فأيها الأقرب للسنة في الجمع بين لعق الإناء وبين الأكل مما يليه؟ لا شك أنه إذا أكل مما يليه دون أن ينتشر يميناً وشمالاً بحيث إذا ظهر قاع الصحفة لعق ما يليه، وليس المقصود أنه يلعق كل الإناء أو (التبسي) فهذا قد لا يتيسر بل ربما انبشم ولما يلعقه كله، فإذاً يأكل مما يليه حتى إذا ظهر قاعها لعقه، فإنه ينظفه ويأتي عليه بأصابعه فيكون مكان أكله محفوظاً عن الانتشار.
وكذلك فإنه مما يشكل في الموضوع حديث تتبع الدباء من حوالي القصعة، فقد يظهر في بادئ الأمر تعارضاً بين حديث تتبع الدباء في القصعة وبين قضية الأكل مما يليه، وحديث تتبع الدباء رواه البخاري عن أنس: (أن خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعامٍ صنعه، قال أنس: فذهبتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يتتبع الدباء من حوالي القصعة، قال: فلم أزل أحب الدباء من يومئذٍ) إذا تأملنا في عنوان البخاري عن الحديث لربما تبين لنا شيئاً من الأشياء التي يزول بها التعارض.
فإنه قال رحمه الله: بابٌ من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه الكراهية، وهذا القيد في قوله: إذا لم يعرف منه الكراهية مهم؛ لأن تتبع الأشياء كثيراً مما يكرهه الناس، إذا كان يأكل مع جماعة فتتبع مما عن يمينه وشماله فإنه يأكل مما عن يمين غيره وعن شمال غيره من هاهنا ومن هاهنا، لكن إذا كان يعلم أنهم لا يعيبون ذلك ولا يكرهونه، فهل يحق له أن يأخذ منه إذا علم ذلك؟ فظاهر فعل البخاري رحمه الله وصنيعه في هذه الترجمة أنَّ له ذلك.
وقد ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى، أن الجواب عن هذا التعارض يمكن أن يقال: إن المسألة فيها تفصيلٌ: أنه إذا كان لوناً واحداً فلا يتعدى ما يليه، وإذا كان أكثر من لون فيجوز.
وقد حمل بعض الشراح هذا الحديث على ذلك فقال: إن كان الطعام مشتملاً على مرقٍ ودباءٍ وقديد، فكان يأكل مما يعجبه وهو الدباء، ويترك ما لا يعجبه وهو القديد، وبعضهم قال: هذا يحمل على ما إذا كان يأكل لوحده فيجوز له أن يتتبع الشيء الذي يريده، وقد جاء في بعض طرق الحديث أن الخياط تركه يأكل وذهب لعمله، أو أنه محتاج للذهاب فذهب، وإذا كان يأكل لوحده من صحن بناءً على ذلك، فإنه لا يكون هناك محذور في كراهية الآخرين لتتبعه لشيءٍ معين، فيمكن أن يكون الجمع بهذه الطريقة أيضاً، فإذاًً نقول: أولاً: إذا كان يعلم أن غيره لا يكره ذلك.
ثانياً: إذا كان الطعام ألواناً وأصنافاً، فأمامه -مثلاً- رز أبيض، وفي الناحية الأخرى رز أحمر وهو يريد الأحمر فإنه إذا أخذ مما هو بعيدٍ عنه مما يلي غيره لا بأس بذلك.
وثالثاً: أن نقول: إنه إذا كان يأكل لوحده جاز له أن يتتبع ما يريد، وبهذا يكون الجواب على هذه المسألة.
ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحدٌ ليتقذر صنيعه أو يكره منه فعله، فكون يده جالت في الطعام لأجل ذلك فإنه لا يكون قد آذى غيره مطلقاً، بل هناك أمر أدق من هذا ألا وهو: أنهم كانوا يتبركون بلعابه صلى الله عليه وسلم، وبريقه الذي يمسه يده، ولذلك لو أكل من أمام غيره لربما كان ذلك فيه إكرام له، من هذه الجهة.