وأول ما يجب على المقرض ألا يستعمل الربا، فإذا عجز المقترض عن وفاء الدين فعليه أن ينظر أخاه المسلم بالإحسان، وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من طلب حقاً، فليطلبه في عفاف وافياً أو غير واف) وهذا الحديث في سنن ابن ماجة، وعنون عليه المصنف رحمه الله: باب حسن المطالبة وأخذ الحق في عفاف.
ويقول صلى الله عليه وسلم:(رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) رواه البخاري، فهو يسامح صاحبه عند المطالبة بالدين.
وهذه الأحاديث قد أحدثت فعلها في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم.
فعن عبد الله بن أبي قتادة: أن أبا قتادة رضي الله عنه طلب غريماً له فتوارى عنه، ثم وجده أبو قتادة، فقال الغريم: إني معسر، فقال: آلله؟ يستحلفه على إعساره، فقال: آلله، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر أو يضع عنه) وفي رواية عن محمد بن كعب القرظي: أن أبا قتادة كان له دين على رجل وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه، فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه فقال: نعم هو في البيت، يأكل خزيرة -نوع من أنواع الطعام- فناداه يا فلان، اخرج فقد أخبرت أنك هاهنا، ثم قال له: ما يغيبك عني؟ فقال: إني معسر وليس عندي مال، فقال: آلله إنك معسر؟ قال: نعم، فبكى أبو قتادة رضي الله عنه -تأثراً بحال أخيه المسلم، الذي ألجأه عدم وجود المال للاختباء من صاحب الدين والفرار منه- ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نفس عن غريمه، أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة).
وليست هذه أحوالاً فردية، بل إن الأمر كان واسعاً في مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم في إنظار المدين، فروى مسلم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت رحمه الله قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا -خرج هذا الفتى مع أبيه يطلبان العلم، في الأنصار قبل أن يموت الأنصار؛ حرصاً على تحصيل العلم- فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام له مع ضمامة من صحف -معه أوراق مضمومة- فقال له أبي: يا عم! إني أرى في وجهك سفعة من غضب -وهذا أدب المتعلم مع العالم، وأدب طالب العلم، في مراعاة حال معلمه قبل أن يسأله، وفي استجلاء ما على وجهه من الآثار- إني أرى في وجهك سفعة من غضب، قال: أجل.
كان لي على فلان بن فلان الحرامي -نسبة إلى بني حرام- مال، فأتيت أهله فسلمت فقلت: أثم هو؟ قالوا: لا، فخرج إلي ابن له جفر -أي: غلام صغير- فقلت: أين أبوك؟ فقال لي: سمع صوتك، فدخل أريكة أمي -وهكذا يبلغ الحال بالمدين أن يفر من الدائن إلى مكان النساء من الذل الذي يلقاه- فقلت له: اخرج فقد علمت موضعك، فخرج المدين فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا والله أحدثك ولا أكذبك، خشيت أن أحدثك فأكذبك، وأعدك فأخلف -يقول: خشيت أن أكذب في الحديث وأن أخلف الوعد، فآثرت الاختباء على الخروج إليك- وكنت قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنتُ والله معسراً، فقلت: آلله إنك معسر؟ قال: آلله -وفي رواية: رددها ثلاثاً- فاستخرجت صحيفة الدين فأعطيتها لهذا المدين فمحاها بيده وقلت: إن وجدت قضاءً فاقضني وإلا فأنت في حل -لقد أحللتك إن كنت لا تستطيع- ثم قال: فأشهد بصر عيني هاتين، ووضع أصبعه على عينه، وسمع أذني هاتين -كذا ضبطاها في جامع الأصول - ووعاه قلبي هذا -وأشار إلى نياط قلبه- رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:(من أنظر معسراً أو وضع عنه، أظله الله في ظله).