[الأحاديث الواردة في التهنئة]
ولنأخذ بعض الأحاديث التي وردت في التهنئة.
من أشهر الأحاديث التي وردت حديث كعب بن مالك الذي أشار إليه النووي رحمه الله وغيره في هذا الباب, قال البخاري رحمه الله في كتاب الاستئذان: باب المصافحة, وقال ابن مسعود: [علمني النبي صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه] وقال كعب بن مالك: (دخلت المسجد وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني) والبخاري رحمه الله أتى بها معلقة لكن وصلها في الصحيح، ووردت كذلك في صحيح مسلم , وجاء في الحديث الطويل: (والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لـ طلحة) , فالشاهد منه أنه قال: هنأني, هنأه بأي شيء؟ بتوبة الله سبحانه وتعالى عليه, إذاً هذه تهنئة تتعلق بأمر ديني.
كذلك -مثلاً- أن يهنئه بما عنده من العلم أو إذا أصاب الحق, مثلاً: سئل سؤالاً فأفتى بفتيا فأصاب الحق، فيهنأ كما هنأ النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب , فقد روى مسلم رحمه الله في كتاب صلاة المسافرين وقصرها عن أبي بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم, قال: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:٢٥٥]-يعني في الأول ما أراد أن يجيب، أدباً، ينتظر الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كرر النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
أجاب بما يعرف- قال: فضرب على صدري وقال: ليهنك العلم أبا المنذر) فهذا من التهنئة.
والتهنئة على أي حال مستحبة في الجملة؛ لأنها مشاركة من المسلم لأخيه المسلم فيما يسره ويرضيه, وكثيراً ما يكون فيها دعاء بالبركة كما سبق في بعض الأحاديث, ولا شك أن التهنئة مما يبعث التواد والتراحم والتعاطف بين المسلمين.
والمؤمنون يهنئون في الجنة بما عندهم من النعيم، كما قال الله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:١٩].
والتهنئة تكون بكل ما يسر ويسعد مما يوافق شرع الله تعالى, فعلى سبيل المثال التهنئة بالنكاح، وقد عقد ابن ماجة رحمه الله في سننه باباً في كتاب النكاح، باب تهنئة النكاح, وكذلك التهنئة بالقدوم من السفر أو الحج.
أما التهنئة بالنكاح فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مهنئاً بالنكاح: (بارك الله عليك) وثبت أنه كذلك قال: (بارك الله لك) وتكون التهنئة في حق من حضر النكاح ومن جاء بعد ذلك، وتكون بعد العقد وبعد الدخول أيضاً, ويطول وقتها بطول الزمن المتعارف عليه بين الناس.
والتهنئة التي وردت في النكاح هي الدعاء بالبركة كما ورد, وتسمى: ترفئة.
ويدل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم الوارد: (كان إذا رفأ إنساناً -تزوج- قال: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير).
وتهنئة أهل الجاهلية في النكاح مرفوضة وهي قولهم: بالرفاء والبنين, وقد جاء عن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه أنه تزوج امرأة من بني جشم فقالوا: بالرفاء والبنين, فقال: لا تقولوا هكذا ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لهم وبارك عليهم) وليس العيب في كلمة الرفاء، فإن معناها: الارتفاق والائتلاف والالتئام وهذا ليس بمكروه, لكن العيب في قولهم: بالبنين, فإنهم في الجاهلية كانوا يكرهون البنات, ولذلك يهنئون بالبنين؛ لأنهم لا يريدون البنات, ولذلك يئدون البنات, وطريقة وأدهم للبنات مختلفة فبعضهم كان يجعل امرأته عند حفرة إذا صارت ولادتها فإن خرج المولود أنثى ألقي في الحفرة وردم عليها, وإن كان ذكراً أخذوه, وكان بعضهم يأخذها بعد ولادتها فيدفنها بنفسه كما روي عن عمر أنها كانت تلعب بلحيته وهو يحفر لها, فبكى عندما تذكر ذلك, وكان بعضهم يذبحها ذبحاً, فجاء الله سبحانه وتعالى بإبطال هذه العادة الذميمة وبيان أن الذي يعيل البنات يكون له أجر، وأن الذي يطعمهن مما أعطاه الله ويكسوهن مما أعطاه الله ويؤدبهن ربما يكن سبباً في دخوله الجنة، ولما كانت النفوس ربما يحصل فيها شيء من الكراهية للبنات جاءت الشريعة بأشياء تعوض هذا النقص, وما كانت ذرية النبي صلى الله عليه وسلم إلا من بنته.
فإذاً تهنئة أهل الجاهلية مرفوضة لهذا السبب, وكذلك قيل: إنه ليس فيها ذكر لله, فقولهم: بالرفاء والبنين ليس فيها ذكر لله ولا دعاء, وإنما هو يقال من باب التفاؤل, فهذا سبب آخر لكراهيتها.