كان ابن الجوزي -رحمه الله- يشتكي من الذين يضيعون الأوقات، وهذا جانب مقابل؛ ونحن بين إفراطٍ وتفريط، ناس لا يزورون، وناس يزورون زيارات مملة مضيعة للوقت، فأما الطرف الأول فعرفنا تفريطهم، أما الطرف الثاني فإن من إفراطهم أنهم يأتون بغير موعد، والإتيان بغير موعد لا بأس به، والسلف لم يكن لديهم تلفونات كان يزور أخاه، فقد يصادفه في مسجد، قد يتواعد معه وقد لا يتواعد معه، لكن الفرق في ذلك: أن الرجل منهم إذا زار أخاً له واستأذن، وقال: السلام عليكم أأدخل مثلاً؟ فقيل له: ارجع، فيرجع بطيب نفس:{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}[النور:٢٨] والآن الشخص منا لو ذهب ليزور آخر، فاستأذن فلم يؤذن له، لا تجد أحداً يتجرأ ويقول له: ارجع أو يعتذر له، وإنما يستعمل الكذب بدلاً من أن يقول: يا أخي! ارجع: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا}[النور:٢٨] فتجده لا يقول: ارجع، ولكن يكذب، فربما يقول: قولوا له: هو غير موجود، أو أنا عندي موعد، أو أنا الآن خارج من البيت، وهو في البيت! فإذاً هناك إفراط في كثرة الزيارات وتفريط في عدم الزيارات، وهناك أناسٌ يتضايقون إذا لم يُسمح لهم بالزيارة، قال ابن الجوزي: أعرف أُناساً من البطالين -دائماً- يريدون أن يزوروني وأنا عندي تآليف وأشغال، فكنتُ أدافع اللقاء جهدي، أعتذر ما استطعت لأجل ما أنا فيه من العبادة أفضل من قضاء الوقت معهم، فإذا اضطررت وصرت أمام الأمر الواقع وهو أنهم لابد أن يزوروني كنتُ أعد الأشياء التي لا تحتاج إلى تفكير، من قطع الأوراق، وبري الأقلام ونحوها، فإذا زاروه ولابد ودخلوا عليه واقتحموه اقتحاماً فإنه ينشغل بهذه الأشياء التي تأخذ وقتاً ولا تحتاج إلى تفكير في مدافعة ومواجهة هؤلاء القوم.
بعض الزوار لا يراعون الإشارات ولا التلميحات، فقد يريد صاحب البيت أن تنصرف من عنده، فيعطيك إشارة تلميح لكن بعض الزوار عقولهم سميكة، فلا يفهمون التلميح ولا التصريح.
وبالنسبة للإحراجات التي تحصل بسبب عدم الإذن، فنقول: إن الهاتف وسيلة لتحديد الموعد ومعرفة الظروف والأحوال، أنك تتصل عليه إذا أردت أن تزوره، والمشكلة أن بعض الناس يعتبرون أنفسهم من الخصوصيين، ويظنون أنهم متى جاءوا في أي وقت فالباب مفتوح، والإنسان قد يكون له ظروف وانشغالات لا تسمح له باستقبال أعداد من الناس في أوقاتٍ مختلفة، وكل واحدٍ يظن نفسه أنه صاحب حق ومن المقربين، وفي أي وقت جاء فلا حرج عليه، وهكذا تحصل الإشكالات.