للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[من آداب التلاوة: البكاء عند تلاوة القرآن الكريم]

وكذلك من آداب التلاوة البكاء عند تلاوة القرآن الكريم، لأن الله قال: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:١٠٩]؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر ابن مسعود أن يقرأ عليه التفت إليه ابن مسعود فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام، والبكاء عند قراءة القرآن لا شك أنه دليل الخشوع إذا كان بكاءً صادقاً.

فإن البكاء على أنواع: ١ - منه ما يكون بكاء رحمة ورقة.

٢ - ومنه ما يكون بكاء خوف وخشية.

٣ - ومنه ما يكون بكاء محبة وشوق.

٤ - ومنه ما يكون بكاء فرح وسرور.

٥ - ومنه ما يكون بكاء حزن وجزع.

فالبكاء المطلوب عند تلاوة القرآن هو بكاء الخشوع وليس بكاء النفاق، وليس البكاء المستعار، أما التباكي فهو تكلف البكاء، وقد جاء في حديثٍ: (إن لم تبكوا فتباكوا) ولكن الحديث ضعفه الشيخ ناصر، وذكر الشيخ عبد العزيز بن باز في بعض فتاويه أنه لا يعرف صحته، والحديث رواه أحمد وغيره، فالبكاء عرفنا دليله من الكتاب والسنة، وعرفنا أن البكاء عند قراءة القرآن يكون بكاء خشوع وليس بكاء نفاق، مثل التظاهر بالبكاء لأجل أن يقول الناس عنه: إنه خاشع، وإنما هو بكاء خشوع، لو سمعه الشخص ارتاح إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله) رواه ابن ماجة، وهو حديثٌ صحيح.

أما بالنسبة للتباكي فإنه ينقسم إلى: تباكي محمود، وتباكي مذموم: - التباكي المحمود: هو الذي يستجلب رقة القلب وخشية الله، وليس تباكي الرياء والسمعة، مثلما قال عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسرى بدرٍ: (أخبرني ما يبكيك يا رسول الله، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما) ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هناك عبارة وردت في كلام بعض السلف: "ابكوا من خشية الله، فإن لم تبكوا فتباكوا".

- أما التباكي المذموم: هو الذي يجلب ويستجلب به حمد الخلق وثناءهم عليه، فيتظاهر بالبكاء أمام الناس، فهذا تباكي نفاق.

كما أن هناك بكاء نفاق وهناك تباكي نفاق، ولابد من شيء من التفصيل في موضوع البكاء عند تلاوة القرآن الكريم، أو عند سماعه.

لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبكي عند تلاوة القرآن وليس يعني ذلك أنه كان يبكي دائماً، لكن كان يعرض له البكاء عند تلاوة القرآن وعند سماعه، كما جاء في الحديث الصحيح، وقال الصحابي: (أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجل) أي: يبكي؛ لأن الأزيز هو صوت البكاء، ولكنه يخرج من الجوف، فهو صوتٌ مكتوم، والمرجل: الإناء الذي يُغلى فيه الماء، فكيف يكون صوت الإناء الذي يغلى فيه الماء؟! فهكذا كان صوته عليه الصلاة والسلام وهو يصلي ويقرأ القرآن، فيجيش جوفه عليه الصلاة والسلام ويغلي من البكاء من خشية الله تعالى.

والصحابة رضوان الله عليهم ثبت كذلك عنهم أنهم كانوا يبكون عند قراءة القرآن الكريم، وقصة أبي بكر معلومة في مرض وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة: [إنه رجلٌ رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء]، وفي رواية: [إن أبا بكر رجلٌ أسيف، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس] وكذلك عندما كان في مكة يُصلي بفناء داره ويجتمع إليه نساء المشركين وأبناؤهم، وكان رجلاً بكاءً لا يملك دمعة رضي الله عنه.

وعمر بن الخطاب سمع نشيجه من وراء الصفوف، لما قرأ قوله تعالى في سورة يوسف: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:٨٦] حتى سالت دموعه على ترقوته، وكذلك فإنه بكى مرةً بدير راهب ناداه: [يا راهب! فأشرف، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له: يا أمير المؤمنين! ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله عز وجل في كتابه: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:٣ - ٤]] أناس يشتغلون ويعملون ويجدون ولكن لهم النار، لأن منهجهم ضلال وكفر، ومجتهدين في شرك أو في بدعة.

وكذلك فإن عمر قد كتب إلى رجل سمع أنه يشرب الخمرَ فكتب إليه: من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان، فسلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير، ولما بلغ الرجل كتاب عمر جعل يقرأ ويردد، ويقول: غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، قد حذرني عقوبته، ووعدني أن يغفر لي، فلم يزل يرددها على نفسه، ثم بكى ونزع مما كان فيه من شرب الخمر.

وعائشة رضي الله عنها مرَّ عليها القاسم وهي تقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:٢٧] ترددها وتبكي وتدعو.

وعبد الله بن عباس لما قرأ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩] جعل يرتل ويكثر النشيج.

وهذا عبد الله بن عمر ما يقرأ قول الله: عز وجل

الجواب

=٦٠٠٠٢٩٠> وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٤] إلا كان يبكي، وكذلك قال نافع عنه في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:١٦].

المهم أن الصحابة بكى عدد منهم في عدد من المواقف.

إذاً: البكاء ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكذلك عن التابعين، فكان عمر بن عبد العزيز، مرة يقرأ قول الله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:٤ - ٥] بكى.

وكذلك: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:١٤]، وكذلك في آية: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:٢٤] {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان:١٣].

الفضيل بن عياض وابنه علي وغيرهم من علماء السلف وزُهّادهم كانوا يبكون عند قراءة القرآن الكريم، وحتى النساء كما ذكرنا عائشة رضي الله عنها.

لكن هل البكاء يصل إلى درجة الصياح والصراخ؟!

الجواب

أبداً، ولذلك فإن مسألة الصياح والصعق الموجودة عند الصوفية، لا شك أنها من البدع.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: وما يحصل عند السماع والذكر المشروع من وجل القلب، ودمع العين، واقشعرار الجسوم، فهذا أفضل الأحوال التي نطق بها الكتاب والسنة.

أما الاضطراب الشديد والغشي والموت والصيحات، فهذا إن كان صاحبه مغلوباً عليه لم يُلم عليه، مغلوب: أي: حدث غصباً عنه وهو لم يقصد ذلك ولم يتكلف؛ لم يُلم عليه، كما قد يكون في التابعين ومن بعدهم، فإن منشأه قوة الوارد على القلب مع ضعف القلب، والقوة، أي: يكون الوارد عليه في الآية فيها معانٍ عظيمة لم تتحملها نفسه، قلبه أضعف أن يتحملها، أو يمكن أن يموت أو يغشى عليه.

والصحابة كان الوارد والمحل عندهم قوياً، ولذلك لم ينقل عنهم أن واحداً منهم مات أو صعق، وإنما التعليل لمن جاء بعدهم من الصالحين الذي كان يغشى على الواحد منهم أو يموت، سببه أن الوارد أقوى من المحل، فيرد وارد قوي على محل فيه ضعف أو أضعف من الوارد، فيحدث ما يحدث من الصعق أو الموت.

وسُئل الشيخ عبد العزيز بن باز نفع الله بعلمه عن ظاهرة ارتفاع الأصوات بالبكاء؟ فأجاب: لقد نصحت كثيراً من اتصل بي بالحذر من هذا الشيء، وأنه لا ينبغي؛ لأن هذا يؤذي الناس ويشق عليهم، ويشوش على المصلين وعلى القارئ.

وبالفعل في بعض المساجد في رمضان يكون الوضع مزعجاً جداً، حيث أن بعض الناس لا يستطيع أن يفهم قراءة القرآن من الإمام، ولا يسمع صوته من زعيق وصياح بعض الناس، وهذا ليس من الخشوع في شيء، وليس من طريقة النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة، بل كان بكاؤه عليه الصلاة والسلام بكاءً مكتوماً ما كان صياحاً وزعيقاً.

قال: فالذي ينبغي للمؤمن أن يحرص على ألا يسمع صوته بالبكاء، وليحذر من الرياء، فإن الشيطان قد يجره إلى الرياء، فينبغي له ألا يشوش على المصلين بصوته، ومعلومٌ أن بعض الناس ليس ذلك باختياره؛ بل يغلب عليه من غير قصد، وهذا معفوٌ عنه إذا كان بغير اختياره، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأ يكون لصدره أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء، وجاء في قصة أبي بكر أنه كان إذا قرأ لا يُسْمِع الناس من البكاء إلى آخره، ولكن هذا ليس معناه أنه يتعمد رفع صوته بالبكاء، وإنما شيء يغلب عليه من خشية الله عز وجل.

وكذلك سُئل الشيخ عن التباكي؟ فأجاب: ورد في بعض الأحاديث: (إن لم تبكوا فتباكوا) ولكن لا أعلم صحته، وقد رواه أحمد إلا إنه مشهورٌ على ألسنة العلماء، لكن يحتاج إلى مزيد عناية، والأظهر أنه لا يتكلف، بل إذا حصل بكاءُ فليجاهد نفسه على ألا يزعج الناس، بل يكون بكاءً خفيفاً ليس فيه إزعاجٌ لأحد حسب الطاقة والإمكان، هذا ما يتعلق بموضوع البكاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>