للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الاعتبار بما يخرج منه وكيف كان يأكله طيباً

وأخيراً: التفكر والاعتبار في قضاء الحاجة بخروج عملية النجاسة، وقد ذكر في ذلك كلاماً نفيساً جداً، قال رحمه الله: وينبغي له إذا خرج منه خارجٌ أن يعتبر إذ ذاك في الخارج وفي نتنه وقذره فإن نفسه تعاف منه، ويعلم ويتحقق أنه لا بد أن يرجع هو نفسه كذلك، سواء بسواء.

كيف يرجع ويتحول الإنسان هو نفسه إلى مخلفات وخارج؟ يكون ذلك إذا أكلته الديدان ورمته من جوفها قذراً منتناً، ويعلم أن ثم قوماً لا ينتنون في قبورهم ولا تتعدى عليهم الأرض ولا يتغيرون؛ وهم الأنبياء، وكذلك أولياء الله والعلماء والشهداء قد يكون لهم شيء من هذه الميزة، وقد تحفظ قصة عن شخص لم يتغير مثلما حصل لوالد جابر، حيث إنه دفن وبعد سنين حفروا قبره فضربت المسحاة أذنه فنفر الدم منها.

إذاً: بعض العلماء والأولياء والشهداء قد يحصل لهم من الكرامات ألا تتغير أجسادهم بعد الدفن، ولا تأكله الديدان.

قال: فيتفكر في هذا وتكون همته سامية لبلوغ هذه المراتب، قال: وذلك تنبيه من الله سبحانه وتعالى لنا حتى يعلم كل واحد منا ما هو صائر إليه {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة:٢٦٩] فمن كان له لبٌّ نظر إلى أوله فوجده نطفة، ونظر إلى آخره فوجد أنه تأكله الديدان وترميه، وإلى وسطه -يعني: أوله الحياة وآخره الموت- يجد ما يراه في كل يوم مما يحمل ويخرج منه: يعني: هو حامل النجاسة في بطنه، أوله نطفة وآخره الديدان حيث يصير إليها وتتخلص منه قذراً، وبين ذلك يكون حاملاً للنجاسة وتكون في جوفه.

قال: أي نفس تشمخ وتتكبر -وهي بهذه الحال- فهذا الاعتبار.

وكذلك ينبغي في قضاء الحاجة: أن يتفكر في الطعام الذي أكله حيث كان طيب المذاق، شهياً للنفوس لا يشترى إلا بالمال بعد التعب، فليتفكر ما يصير إليه هذا المال، وقد سلبت طهارته، وذهب عزه، وصار منتناً قذراً يتحامى عنه، لماذا؟ لأنه اختلط بنا، الطعام لما اختلط بنا أنتن وصار نجساً وقذراً، فنقل عن ابن عطية رحمه الله في التفسير حين تكلم عن قول الله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس:٢٤] ذهب أبي بن كعب وابن عباس والحسن ومجاهد إلى أن المراد إذا صار رجيعاً، فليتفكر الإنسان ويعتبر أن الطعام يتحول إلى ماذا؟ وهكذا عاقبة الدنيا، وقد جاء في الحديث الصحيح: أن الإنسان يعتبر بالدنيا: (إنما ضرب طعام ابن آدم مثلاً للدنيا، فلينظر إليه إن قزحه وملحه فلينظر إلى ما يصير) وأشهى طعام يكون في النهاية جيفة.

هكذا الدنيا.

قال: ثم إنه لم نجد هذا الطعام وحده؛ الطعام إذا خالطنا صار بعد ذلك قاذورات، بل كل ما نباشره إن لبسنا ثوباً جديداً فعن قليل يتوسخ وعن قليل يتمزق، وإن مسسنا طيباً فعن قليل تذهب رائحته، وهكذا قال: فالمؤمن يعتبر ويأخذ نفسه بالأدب من وجهين: أولاً: الهرب من خلطة من لا ينفعه في دينه؛ لأنه يخاف على نفسه من آثار هذه الخلطة، يقول: الطعام لما اختلط بنا ولامسنا ودخل فينا ماذا صار؟ وكذلك لو خالط قرين السوء الذي يكذب في دينه فيكون أوسخ من هذا.

ثانياً: أن يكون إذا خالطه أحد من إخوانه المسلمين ممن ينتفع به في دينه أو ينفعه فليحذر من أن يغير أحداً منهم بسبب خلطته، يعني: يحذر هو أن يتغير من قرين السوء، ويحذر أن يغير غيره، فهذان وجهان عظيمان.

نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الأدب والفقه وحسن الخاتمة، وصلى الله على نبينا.

<<  <  ج: ص:  >  >>